هيام القصيفي
لم تتّضح بعد صورة توجّه واشنطن بشأن الاستقرار في لبنان بعد إهمال إدارة الرئيس دونالد ترامب له. لكن الانفلات الأمني بين أحداث طرابلس واغتيال الناشط السياسي لقمان سليم، سيضعها أمام استحقاق اتخاذ خيارها، ومعها الرئيس المكلف سعد الحريري
مع دخول الإدارة الاميركية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن مرحلة استكشاف الملفات الكثيرة الموضوعة على الطاولة من آسيا إلى أفريقيا وروسيا وأوروبا وأميركا اللاتينية، وضعت معظم مراكز الدراسات الأساسية روزنامة عملية لبدء تعامل الإدارة تراتبياً مع القضايا الأساسية والمهمة سياسياً وعسكرياً، مع الأخذ في الاعتبار أيضاً ملف كورونا. تحتل منطقة الشرق الأوسط، مكانة أساسية في هذه الأولويات، لا سيما أن أمام إدارة بايدن ملف إيران النووي، الذي تتقاطع فيه مع بريطانيا والاتحاد الأوروبي، ومعه الساحات الشرق أوسطية التي تؤدي إيران فيها دوراً محورياً. ما يعني لبنان، أنه لم يكن الوقت قد حان بعد ليصبح رقماً أول بين دول المنطقة التي يُفترض أن تقاربها واشنطن بالفاعلية نفسها التي كان عليها في سنوات حساسة ليست بعيدة، حتى بدأ التفلّت الأمني. فالسؤال المركزي الذي خلص إليه متابعون مع دوائر أميركية فاعلة، يتعلّق بما إذا كانت الإدارة الجديدة معنيّة باستقرار لبنان الأمني والعسكري، كما كانت الحال مع إدارة الرئيس باراك أوباما، بعد أربع سنوات من «التخلي» الأميركي عن «رعاية» هذا الاستقرار. ففي ولاية الرئيس دونالد ترامب، كانت مقاربة السياسة الأميركية تقضي بعدم مراعاة الاستقرار كأولوية. وقد أبقت تلك الإدارة على الحدّ الأدنى من التعامل الرسمي معه، لا سيما أن عملها تزامن مع بدء ولاية الرئيس ميشال عون. وفي موازاة تشديد حزمة العقوبات تدريجاً على حزب الله وعلى شخصيات لبنانية، أخذت في الاعتبار إبقاء المصالح قائمة مع المؤسسات الأمنية والعسكرية. لم تهتم واشنطن بموضوع الحكومات المتعاقبة ولا بالانتخابات بالمعنى الذي كان سائداً في المرحلة التي تلت عام 2005، حتى أن اهتمامها بتشكيل الحكومة لم يكُن تفصيلياً يتعلّق بقيامها أو الحصص فيها. بل إن مفتاح علاقتها الأساسي كان موقفها من حزب الله وحده، ما دون ذلك متروك للبنانيين. مع الإدارة الجديدة، من المبكر الحكم على كيفية بناء استراتيجيتها تجاه استقرار لبنان، وعلى أي قاعدة سيتم التعامل معه كأولوية وحاجة أساسية بمعزل عن ملفات المنطقة، أم أنه سيُضاف إلى الملفات التي توضع على طاولة المفاوضات، الأمر الذي يمكن أن يستغرق وقتاً لا يملك لبنان ترف تحمّله.
إلّا أن ما جرى في الأسبوعين الأخيرين، حمل رسائل أمنية إقليمية ومحلية، من شأنه أن يسلّط الضوء عليه أميركياً خصوصاً في ضوء النقاش الأميركي - الفرنسي حيال لبنان، لإيجاد حال توازن بين الحاجة إلى لبنان مستقراً أو التخلّي عنه. فالمؤشرات الأمنية منذ انفجار أحداث طرابلس واغتيال الكاتب والسياسي لقمان سليم، وصولاً إلى رسائل إسرائيل وحزب الله الجوية، بدأت تضع لبنان تحت المجهر، وهو ما ظهر جلياً في الإعلام الغربي والعربي، وردود الفعل المندّدة باغتيال سليم. وفيما انصبّ اهتمام العالم العربي والغربي بعد انفجار المرفأ، على الشق الإنساني بالدرجة الأولى وتأمين المساعدات وإغاثة الجرحى، فإن عملية الاغتيال، مع ما شهدته من ردود فعل، لجهة الاتهامات الموجهة إلى حزب الله، وقبلها أحداث طرابلس المرجّحة للتفاقم والاستمرار، في ضوء تداخل عوامل إقليمية ومحلّية فيها، والإضاءة على اكتشاف خلايا داعش مجدّداً، سيضع استقرار لبنان على المحك. فأيّ انفجار أمني على أكثر من مستوى، مترافقاً مع انهيار اقتصادي وصحّي غير مسبوقين، من شأنه أن يترك تداعيات مباشرة على التركيبة الداخلية. وهنا الخطورة التي قد تدفع دولاً معنيّة إلى التحرك مجدّداً. لذا بدأ الكلام عن الاحتمالات السياسية التي قد تنشأ عن المعطيات الجديدة كمستقبل تأليف الحكومة، وانهيار منظومة الاستقرار من دون رعاية دولية.
التنازل المطلوب من الحريري لحماية الاستقرار سيكون مطلوباً أيضاً من العهد وحزب الله
بين أحداث طرابلس وعملية الاغتيال كان موقف تيار المستقبل دقيقاً. في الأولى، حاول الإمساك بالشارع الذي يتفلّت من بين يديه بعدما اعتبر أن بعض ما جرى رسالة لليّ ذراع الرئيس سعد الحريري في عملية التشكيل. كذلك كان «المستقبل» أول المسارعين إلى استنكار عملية الاغتيال. بين الحدثَين يمكن انتظار موقف الحريري السياسي ومستقبل تكليفه، في ظلّ رهان عارفيه على أنه مهما بلغ حجم الاستنكار فإن الأزمات الأمنية والسياسية تقف عند حدود التكليف، أي أنه لن يفرّط بتكليفه وبتأليف حكومة مع حزب الله. هكذا كان واضحاً بعد صدور قرار المحكمة الدولية، وهكذا سيبقى واضحاً في خياره السياسي. علماً أن مستوى الرهان يتعلّق بأن حجم التحدّيات الأمنية قد يعطي مبرراً للجميع للعودة إلى الحوار تحت سقف تشكيل حكومة لمنع مزيد من التفلّت. إلا أن قرار السير بالحكومة، لن يكون معزولاً عن ضغوط داخلية لدفعه إلى الاعتذار، كما عن إحاطة أميركية فرنسية بوضعية الحكومة. وسقف هذه الإحاطة مؤشر لما تُقبل عليه إدارة بايدن في وضع نقاط توافق مع باريس بترتيب موقت على شكل حكومة بالحدّ الأدنى من التفاهمات المرحلية تساهم في التهدئة، أو الاعتماد مجدّداً على نهج ترامب تجاه لبنان. لكن ليس الحريري وحده الذي سيُضطر إلى تقديم تنازلات من أجل حماية الاستقرار. فما هو مطلوب منه سيكون أيضاً مطلوباً من العهد ومن حزب الله، والاثنان معنيان كلٌّ على طريقته بفتح ثغرة في الجدار المقفل، وإلا سيكون البلد أمام كباش أمني وانهيار منظومة الاستقرار تدريجاً.