نبيل هيثم
من أعراض الإفلاس في الحياة السياسية اللبنانية، الخاضعة ككل اللبنانيين للحَجر، ولكن غير الصحي، أنّ معيار التفاؤل بات يتحدّد بعبارة مبتورة من بيان فرنسي - (لا) اميركي، بات الكل يأمل في أن تكون الكلمة السر لفتح باب الطوارئ في نفق مظلم تمضي فيه البلاد نحو «جهنم».
هكذا، وبمجرّد تسريب مضمون الاتصال الأول بين ايمانويل ماكرون وجو بايدن بعد تنصيب الأخير، توهم الجميع أنّ ثمة جرعة اوكسيجين أُعطيت للمبادرة الفرنسية الغارقة في موتها السريري منذ أشهر، وبات الكل مترقباً انعكاسات العلاقة الفرنسية - الاميركية الجديدة على تشكيل الحكومة اللبنانية، لا بل ما بعد التشكيل نفسه، في ظلّ الانحدار المتواصل في كل مناحي الحياة في لبنان، إن في السياسة أو الاقتصاد أو الصحة.
كل ما سبق هو امتداد لحالة العبث، التي تجعل اللبنانيين يتعلقون بقشة في كل خطوة تقترب فيها البلاد نحو شفير الهاوية السحيق، في وقت يبقي فيه الكل على رهانات وتوقعات متفاوتة، بعضها يقترب من حدّ الأحلام، أو ربما الأوهام، بشأن السياسات الاميركية البايدينية، وقدرة هذا الطرف أو ذاك على استغلالها لصالحه في عملية تصفية الحسابات المدمّرة، والتي لا يبدو أحدٌ على استعداد للتخلّي عنها، برغم كل ما حدث، وما سيحدث حين تصبح «جهنم» أمراً واقعاً.
لكن، حسابات حقل السياسة اللبنانية لا تطابق حسابات بيدر السياسات الدولية، وهو ما يدفع إلى القول، بقدر عالٍ جداً من اليقين، إنّ الرهان على تغيّر سيد البيت الأبيض ليس كافياً للقول إن ثمة تغييراً تلقائياً سيحدث في موقف الدول الكبرى تجاه لبنان، حتى وإن كان ايمانويل ماكرون لا يزال راغباً في إعادة إنعاش مبادرته اللبنانية لاعتبارات جيوسياسية، فهو يدرك جيداً انّها لن تكون الاّ ضمن حزمة واحدة تتجاوز الملف اللبناني بأميال طويلة، على امتداد المسافة من ليبيا إلى إيران.
بالنسبة إلى الأميركيين، ثمة بديهية يتجاهلها كثر في لبنان، وهي أنّ تغييراً في السياسات الأميركية لا بدّ أن يأخذ متسعاً من الوقت، وبأقل تقدير إلى أن تكتمل التعيينات في مفاتيح السياسة الخارجية في واشنطن، وإعادة صياغة الأولويات، التي من المؤكّد أنّ الملف اللبناني ليس على رأسها، علاوة على أنّ مستوى الاختلاف بين المقاربة الترامبية والمقاربة البايدينية في دول هامشية مثل لبنان يبقى شبه معدوم.
ما سبق تؤكّده معطيات عدّة، أبرزها أنّ البيان الأميركي الموازي للبيان الفرنسي حول فحوى الاتصال بين بايدن وماكرون لم يأتِ على لبنان بالذكر، علاوة على أنّ ثمة حراكاً دائراً في اروقة السياسة الأميركية حالياً بشأن إمكانية اصدار تعديل لقانون قيصر مختص حصراً بالشأن اللبناني، الذي تتفاوت عناوينه الخارجية اليوم بين الفساد وانفجار المرفأ، وبطبيعة الحال الإجراءات الاميركية التقليدية المتصلة بـ»حزب الله».
لا يغيّر هنا في الأمر بعض التفسيرات اللبنانية التي توحي بأنّ المبادرة الفرنسية تعثرت نتيجة اعتراض ضمني من قِبل إدارة دونالد ترامب عليها، وهو ما انسحب عرقلة في تشكيل حكومة مصطفى أديب، بعد قيام الادارة الاميركية السابقة بفرض عقوبات على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس، ومن ثم عرقلة تشكيل حكومة سعد الحريري بعد فرض عقوبات على جبران باسيل.
مع ذلك، فإنّ ثمة كوة صغيرة يمكن لايمانويل ماكرون أن يستغلها لإعادة انعاش مبادرته، وان بشكل صعب للغاية، وهي تتمثل في أنّ اولويات ادارة بايدن الخارجية تتركز على رأب الصدع على ضفتي «الأطلسي»، وذلك لإعادة وصل ما قطعه دونالد ترامب، وبالتالي فإنّ الإدارة الجديدة ربما تسمح بهوامش أكثر اتساعاً لفرنسا لكي تتحرك في الملفات الهامشية نسبياً، ومن بينها الملف اللبناني، كبادرة حسن نية تجاه حليفتها الأوروبية.
ومن شأن ما سبق أن يجعل ماكرون قادراً على التحرّر أكثر فأكثر من الفيتوهات التي فُرضت على تفاصيل مبادرته في العهد الترامبي، وبالتالي تحييد عناصر التفجير الأميركية لها، وهو ما يمكن أن يُترجم في توظيف الاتصالات الفرنسية على خطوط متعددة، لا تقتصر على واشنطن فقط، بل تشمل ربما إيران ودول الخليج، في إطار تمهيدات لتسويات إقليمية كبرى تلبّي المصالح الأميركية، ويكون تأثيرها على لبنان ايجابياً بالتبعية وليس بالمباشر.
لكن، كما أنّ حساب الحقل الدولي لا يطابق دوماً حساب البيدر اللبناني، فإنّ العكس هو صحيح أيضاً، ومعنى ذلك، أنّ حالة الاستقطاب السائدة محلياً، والمتوازية مع معارك تصفية الحسابات والطموحات السياسية الضيّقة، لا شك أنّها ستفرض نفسها على أي حراك خارجي، وهو ما يجعل العثرات اللبنانية للمبادرة الفرنسية تتجاوز بأشواط العثرات الاميركية السابقة.
من هنا، لا يبدو أنّ الطبقة السياسية في لبنان مستعدة لمواكبة أية اندفاعة فرنسية لحلحلة الأزمات الداخلية ولو بالحدّ الأدنى من تطبيق شعار «ساعدوا انفسكم نساعدكم» الذي رفعه جان إيف لو دريان في زيارته البيروتية التي سبقت انفجار المرفأ، ومن ثم زيارتي رئيسه للبنان.
ما سبق يستدل من المكابرة والعناد اللذين باتا سمة كل التحركات المتصلة بعملية تشكيل الحكومة الحريرية، والتي انحدر معها الخطاب السياسي إلى أدنى مستوياته، بما يشمل قمة هرم السياسة اللبنانية، الذي باتت كل أوساخ الطبقة السياسية معلّقة على رأسه، وما في لعبة التسريبات الصوتية وردود الفعل عليها إلّا نذراً قليلاً من ذلك الغسيل الوسخ.
علاوة على ذلك، فإنّ التموضعات السياسية الداخلية بلغت حداً يقترب من الهلوسات الميؤوس من شفائها، فمن ناحية ثمة رهان من رئيس الجمهورية وفريقه على متغيّرات أميركية من شأنها أن تُسقط الفيتو المستقبلي على «رئاسة» جبران باسيل، وهو ما يفترض، بحسب الرؤية العونية، أن يؤذن له قرار اميركي - يبقى في غياهب المجهول حالياً - برفع العقوبات التي فرضتها ادارة ترامب على صهر الجمهورية، وهو ما يزيد فريق العهد تصلّباً ازاء اي طرح متصل بتشكيل الحكومة الحريرية، باعتبار أنّ المبادرة الفرنسية، في حال تحركت، ربما تقفز فوق سعد الحريري، وهو ما ينتظره الثنائي عون - باسيل لتوجيه الضربة القاصمة لحليف الأمس وعدو اليوم.
ومن ناحية ثانية، يبدو الحريري مطمئناً الى وضعه، في ظلّ ما يعتبره اجماعاً على وجوده على رأس حكومة المبادرة الفرنسية، والفرنسيون يدركون ان لا بديل عنه لهذه المهمة، وانّه في الدخول الفرنسي المتجدّد على خط تأليف الحكومة، لن يكون الجهة التي ستدفع الثمن، بل الفريق الذي عطّل المبادرة الفرنسية من الاساس.
كن هناك في المقابل، بعض الاصوات تقول إنّ الحريري متوجس تجاه احتمالية أن يُضحّى به كبش فداء على مذبح المبادرة الفرنسية، عبر ترشيح شخصية سنّية اخرى لترؤس الحكومة، وهو ما يفسّر على نحو كبير اصراره على عدم الاعتذار من جهة، وربما يفسّر التحرّكات التي بدأت تشهدها البيئة السنّية في فترة الإغلاق الثانية، تحت شعارات اقتصادية - اجتماعية.
في الخلاصة، هل سينجح ماكرون، إن حضر من جديد؟
ثمة من قرأ في الحضور الفرنسي المتجدد بإعلان ماكرون عن اتفاق على تعاون فرنسي - اميركي حول لبنان، نافذة أمل يفتحها ماكرون لحل أزمة تأليف الحكومة، حتى ولو بالفرض على اللبنانيين. وما كان ليعيد احياء هذه الفرصة لو لم يكن ماكرون مطمئناً للاميركيين وادارة جو بايدن.
ولكن تلك القراءة تضعف امام مقاربة وصفت بالعقلانية والواقعية لهذا المستجد الفرنسي، تستند الى صورة ابعد واكبر من لبنان، لتؤكّد أنّ ما ظنّه البعض فرصة حل في البيان الرئاسي الفرنسي الأخير، ليس سوى سراب، لن يتأخّر الوقت طويلاً قبل أن يتبدّد، ما يدفع إلى الاعتقاد انّ التسوية الداخلية ليست قريبة، لا سيما أنّ توقيتها المحتمل مضبوط على ايقاع التسويات الاقليمية الكبرى.