ليا القزي
التصدير هو دجاجة بعض الصناعيين والتجار والمزارعين الكبار التي تبيض ذهباً. يتمسكون به حبل خلاص، يؤمّن لهم مدخولاً بالعملة الصعبة، بالتلازم مع خطاب رسمي بات يولي التصدير أولوية ولو على حساب توفير الاحتياجات للسوق المحلية، في ما الأزمة تستدعي إعادة هيكلة القطاع الصناعي بكلّ تفرعاته، ومدّه بآليات العمل اللازمة، وتطوير اليد العاملة، فلا يعود من حاجة إلى استيراد لحم البقر... والمعكرونة على سبيل المثال لا الحصر.
ضعف الإنتاجية في الاقتصاد اللبناني - سواء في القطاعات الصناعية أم الزراعية أم التكنولوجية - يمثّل أحد مشاكله العضوية، وقد دفعته طيلة سنوات إلى تأمين احتياجات السوق المحلية من الاستيراد. وعلى الرغم من الانخفاض «التاريخي» في أرقام السلع المستوردة العام الماضي (انخفضت من 12.50 مليار دولار في أيلول 2019 إلى 5.25 مليارات دولار في أيلول 2020)، إلا أنّها تبقى أعلى من أرقام التصدير (انخفضت 174 مليون دولار بين أيلول 2019 وأيلول 2020 لتبلغ 2.63 مليار دولار). في ظلّ شحّ التداول بالعملة الأجنبية، والصعوبات التي يواجهها التجار لفتح الاعتمادات المصرفية، والقيود بعد انتشار «كورونا»، يستمر لبنان في تأمين حاجات سكّانه عبر الاستيراد، ويسعى عددٌ من الصناعيين والزراعيين والمُصدّرين إلى الاستفادة من الوضع لتعزيز الصادرات أملاً في الحصول على العملة الصعبة.
تشجيع الصادرات - في الظروف العادية - يُعدّ داعماً لأي اقتصاد. ولكن التصدير ليس جزيرة مُستقلة، بل جزءاً من الملف الاقتصادي العام للدولة، وأولوياتها وبرنامجها. فما هي أولوية الدولة اللبنانية؟ توجيه الإنتاج نحو التصدير بُغية استخدامه كوسيلة أساسية لاستقطاب الدولارات؟ أم تطوير الإنتاج لتأمين الحدّ الأدنى (على الأقل) من استهلاك السكّان في السنوات المقبلة؟ بالنسبة إلى حكومة حسّان دياب المُستقيلة، وضعت خطّة تهدف إلى «تطوير القطاعات الإنتاجية بعد أن أصبح الاستيراد باهظاً، وسيتم وضع استراتيجيات لإطلاق المبادرات اللازمة لقطاعَي الزراعة والصناعة، على أن تهدف المبادرات إلى تخفيض كلفة الإنتاج التي تؤثّر على تنافسية المنتجات اللبنانية»، تقول منسقة السياسات الاقتصادية في وزارة الاقتصاد، ريّان دندش. أُسقِطت حكومة دياب من دون أن تضع أساسات ذاك «الاقتصاد المُنتج»، ولكن تُضيف دندش أنّ «تحقيق الارتقاء في الزراعة والصناعة يؤدّي إلى تلبية الطلب المحلي، بعدها العمل على التصدير، والتركيز على القطاعات التي فيها ميزة تنافسية للسلع اللبنانية. فقد حدّدنا سابقاً وجود إمكانيات تصدير، لم يتم الاستفادة منها، بقيمة مليار ونصف مليار دولار». جزء من المشكلة يعود إذاً إلى عدم وجود إرشاد حول نوعية السلع الصالحة للتصدير، تُضاف إلى إصرار بعض القطاعات المُنتجة على إعطاء الأولوية لبيع إنتاجها في الأسواق الخارجية.
يعتبر المدير التنفيذي لـ«مؤسسة البحوث والاستشارات»، كمال حمدان، أنّ التصدير أمر إيجابي، «ولكن في البدء يجب أن نُفعّل الصناعات على أنواعها لنتمكّن من استبدال الاستيراد وتأمين حاجات السوق الداخلي، ثُمّ نُحدّد أين تكمن ميزتنا النسبية، وفي حال أثبتنا وجود تفوّق وقدرة تنافسية لسلعنا، نُطوّر التصدير». يُدرك الخبير في شؤون التنمية الاقتصادية والاجتماعية أنّ التصدير «يُشكّل مُتنفّساً للقطاعات اللبنانية المُنتجة حالياً، التي تُعاني من فقدان البنية التحتية وكلفة الإنتاج العالية، ولكن الهدف يجب ألا ينحصر في إصلاح خلل ميزان المدفوعات وتخفيض العجز في الميزان التجاري والحصول على العملة الصعبة».
النقطة الجوهرية تكمن في «تأمين حاجات السكان المحليين، وأن نخلق لهم فرص عمل. فالتقديرات تُشير حالياً إلى أنّ نسبة اليد العاملة في القطاع الصناعي تراوح بين 10% و12%، وهي من الأدنى في العالم».
انخفضت هذه النسبة على مدى الأربعين سنة الماضية، «بسبب الحرب الأهلية وانهيار الحماية التجارية وارتفاع الأسعار والاتكال على الاستيراد بعد تدمير مناطق صناعية بكاملها. ثم أتى تحالف القوى السياسية بعد الحرب، والتحالف بين الولايات المتحدة الأميركية - السعودية - سوريا والظاهرة الحريرية، فكان الانعطاف الحاد نحو الليبرالية. خفّضنا الحماية الجمركية من 18% إلى 5%، وألغينا الضرائب التصاعدية، وثبّتنا سعر الصرف في الـ1997». ولكن هل الآليات اللازمة لتطوير الإنتاج وتوجيهه نحو الداخل مؤمنة؟ يوضح حمدان أنّ «الإنتاج هو عملية تراكمية، يجب أن ينطلق العمل من مكان ما. يوجد عدد من الصناعيين ورجال الأعمال الذين يبحثون فكرة إقامة صناعات تؤمّن النقص».
يسأل وزير الصناعة عماد حب الله «لماذا يُطرح التصدير كما لو أنّه على حساب الإنتاج المحلّي. على العكس من ذلك، ارتفاع التصدير يعني أنّ السلع اللبنانية تنافسية، وتؤمّن حاجات السوق الداخلي. الواحدة لا تحلّ مكان الأخرى». يستعين حب الله بأرقام جمعية الصناعيين اللبنانيين، «يُصنّعون للسوق المحلي ما يزيد على ثلاثة أضعاف الصناعات المُخصّصة للتصدير»، ولكن ما يجب التركيز عليه، بحسب الوزير، هو «تشجيع المُستثمرين لإطلاق معامل لتصنيع مواد نُعاني من نقص فيها، كالزجاج والسكّر. بالتوازي، نجد مُتحمسين لإنشاء صناعات لها علاقة بالأدوية والصناعات الغذائية». المشكلة هي في «عدم ثقة المستثمرين بالقطاع المصرفي، وعدم الاستقرار السياسي». ويُضيف الوزير السابق والصناعي فادي عبود إلى هذه الأسباب، «إقفال المصانع بحجّة كورونا. هل يوجد بلد في العالم أقفل مصانعه؟». يقول إنّ نسبة البضائع المستوردة في لبنان سببها «أنّهم لا يسمحون لنا بالعمل، فيضطر السوق إلى الاستيراد». ولكنكم مُستمرون في العمل وتقومون بالتصدير؟ «منشتغل بالتهريب، إلنا شهرين ثلاثة ما في مصنع عارف حالو إذا إلو حقّ يشتغل أو لا»، مُقرّاً في الوقت نفسه بأنّ أكثرية الصناعيين قد تكون «تحمّست للتصدير بعد أن انخفضت أكلافنا وأصبحنا من أكثر البلدان التي تملك قدرة تنافسية. ولكنّ التصدير انخفض في كلّ العالم بسبب انتشار كورونا، وهناك عوائق أخرى، مثلاً كلفة الشحنة على العراق تبلغ 8000 دولار وهي من الأغلى في العالم».
الإنتاج لا يقتصر على صناعة الحديد أو الزجاج أو المحارم الورقية، فهناك إنتاج حيواني وزراعي في البلد يُمكن أن يُستفاد منه. لماذا، مثلاً، لا يوجد مصنع معكرونة في لبنان، بعد أن أصبحت هذه السلعة جزءاً من المطبخ اللبناني؟ فالقمح الذي يُزرع في لبنان، ولا يُحبّذ استخدامه في صناعة الخُبز العربي، يُمكن توجيهه نحو صناعة غذائية مطلوبة، قد تحلّ مكان أنواع نشوية أخرى، فنتوقف عن استيرادها. تُشير دراسة لـ«المركز اللبناني والدراسات الزراعية» إلى أنّ العجز في الميزان التجاري الغذائي، «أي المواد الغذائية المُصنعة، بلغ 80%، حيث إنّ أغلبيتها مُستوردة». وما بين أعوام 2016 و2020، انخفضت قيمة الإنتاج الزراعي اللبناني ما بين 30% و80%، بحسب نوعية الزراعة. يبدأ رئيس «المركز»، الدكتور رياض سعادة، حديثه بالتوضيح أنّه «لا يوجد بلد في العالم لديه اكتفاء ذاتي، ولكن نسعى إلى ميزان تجاري مُتوازن، وإلى تحقيق الأمن الغذائي».
الحاجة في هذه المرحلة تبرز لإعادة «تنمية الصناعات الغذائية التي ليست بحاجة إلى تقنيات مُعقدة، وحين يُصبح لدينا فائض نلجأ إلى التصدير. مثلاً إنّها جريمة أن يُطالب البعض بتصدير القمح، في ما الإنتاج لا يُغطّي 20% من حاجات لبنان». يعتبر سعادة أنّ على الدولة أن «تدرس إن كان لبنان يُنتج سلعاً تملك قيمة مُضافة، وغير أساسية للاستهلاك المحلي، يجب تشجيع تصديرها، واستخدام إيراداتها لاستيراد سلع أو مواد أولوية أساسية». فالأولوية تكمن في «دراسة الاقتصاد الكلّي والحاجات الاجتماعية وخلق توازن يخدم البلد وسكّانه».