ملاك عقيل-أساس ميدا
بعد شهرين يُحيي اللبنانيون "الذكرى السنوية الأولى" لتخلّف دولتهم في 7 آذار 2019، بقرار رئاسي وسياسي مشترك، عن سَداد ديونها. حكومة حسان دياب استخدمت تعبير "تعليق السَداد لضرورة استخدام هذه المبالغ في تأمين الحاجات الأساسية للبنانيين".
في الحالتين، مرّ تقريباً عام على قرارٍ وَصَفته جهات مالية ومصرفية بـ "اليوم الأسود"... والأيامِ السود تتوالى. لا حكومة جديدة تعيد فتح باب التفاوض مع صندوق النقد الدولي. الأخير وجد نفسه أمام خطتيّن ومُعسَكريّن وحرب "مُستشارين" فـ"ذَهَب ولم يَعد". وبالتزامن شَطَحَ الدولار صعوداً ليلامس أمس عتبة التسعة آلاف ليرة وقد تجاوزها أصلاً الى العشرة آلاف منذ أشهر ليعود وينخفض. والأسوأ، التهبت الأسعار بإشراف "تجّار اللقمة" دون أيّ رادع وسط عجزٍ مخيف عن استقطاب دولار واحد من الخارج الى الداخل، فيما احتياطي المصرف المركزي نَضَبَ تدريجاً مهدّداً سياسة دعم المواد الأساسية.
يستعيد رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب تلك المرحلة حين شَهَر معادلة "رغيف الخبز قبل الدين الخارجي"، مؤكّداً سعي الدولة بعد تعليق السَداد إلى "إعادة هيكلة ديونها، بما يتناسب مع المصلحة الوطنية، عبر خوض مفاوضات مُنصِفة، وحَسنة النية، مع الدائنين". يومها نَشَب خلاف كبير بين دياب ومستشاريه وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فرفض الأخير وقف السَداد من دون اتفاق مسبق وتفاوض مع الدائنين.
بعد أشهر من الكارثة أعلن دياب: "قلت للمصارف بوضوح يومها لدينا 75% من سندات يوروبوندز يعني أنّنا نملك حقّ القرار، وكان بإمكاننا القيام بإعادة جدولة الديون وعدم التعثّر الكامل. اجتمعتُ مع ممثلي المصارف من 15 شباط حتّى 7 آذار واتّخذت القرار بوجود الرؤساء الثلاثة. لقد كان قراراً سياسياً وليس قراري وحدي، لكنّ المصارف باعت السندات لتزيد حصّة الأجانب من سندات اليوروبوندز و"يا ريت السيولة رجعت"!
ويضيف دياب: "لو قمنا بإعادة الجدولة وأجّلنا دفع استحقاق 2020، وهو استحقاق تبلغ قيمته نحو 4.6 مليار دولار من سندات اليوروبوند وفوائدها – وكانت تستحقّ الدفعة الأولى منها في 9 آذار – واستحقاق الـ2021 المقدّر بـ5 مليار، و2022 بـ5 مليار ،20 عاماً إلى الأمام، لكنّا تنفّسنا مالياُ واقتصادياً لثلاثة أعوام وتجنّبنا التعثر. لكنّنا اكتشفنا في أوائل آذار أنّهم باعوا السندات".
في الوقائع، في أواخر 2019 كانت حصّة الأجانب من الاستحقاقات في 2020 تبلغ ما يوازي 29.12%، لكنّ هذه النسبة ارتفعت بعد تنفيذ عملية swap باستبدال سندات تستحقّ في آذار بسندات ذات استحقاقات أطول، لترتفع حصّة الأجانب في هذه السندات إلى ما يوازي 76.7% من مجمل الاستحقاقات الثلاثة في 2020.
يقول عميد كلية الاقتصاد في جامعة الحكمة الدكتور جورج نعمة لـ"أساس": "كان يوماً أسوداً تزامن مع الاحتفالات بمئوية لبنان الكبير. هذا تخلّف عن السداد وليس مجرد "تعليق". وهو مالياً بمثابة إفلاس. لكن هذا التعبير يُستخدم في توصيف حالة الشركات الخاصة لا حالة الدولة".
يضيف نعمة: "منذ 2012، حين بدأ العجز في ميزان المدفوعات وتَراكَم تدريجاً وكانت المؤشّرات الـ"ماكرو" اقتصادية واضحة بأنّنا نذهب إلى انهيار كبير، تلهّت الدولة بإقرار قوانين إنفاق بدل الفرملة، وسلسلة الرتب والرواتب نموذجاً"، معتبراً أنّ "الهندسات المالية لمصرف لبنان بين 2016 و2019 أخّرت الكارثة بكلفة عالية جداً على أساس استدراك الحكومة لمسارها الانحداري عبر إقرار إصلاحات أساسية في المالية العامة، لكن هذا الأمر لم يحصل".
وفيما أكّد دياب في خطاب تعليق السداد أنّ "القرار اتّخذ بعد دراسة متأنية من كل الجوانب" بوصفه "السبيل الوحيد لوقف الاستنزاف وبناء اقتصادٍ متين ومستدام"، يشرح نعمة قائلاً: "القرار لم يكن مدروساً بتوقيته ومقوّماته وانعكاساته. والـDefault بعد استنفاد جميع الخيارات كان يجب أن يترافق مع خطة، خصوصاً بوجود أسواق مالية ترصد تخلّف دول عن السداد، ما يؤدي إلى عملية مضاربة كبيرة تشكّل أرباحاً ضخمة للمضاربين، وهذا ما حصل فعلاً. إذ لم يًأخذ بالاعتبار الأسواق المالية والمضاربات، وتأثيرها على القطاع المصرفي وحاملي السندات".
في الواقع، بعد نحو أقلّ من عام على إعلان "إفلاس" الدولة، لا تزال الصالونات المالية والسياسية تضجّ بأخبار من راهن على احتمال امتناع لبنان عن سداد ديونه الخارجية ليكدّس أرباحاً طائلة.
عملياً، كنّا أمام عملية تلاعب كبيرة مشروعة لكن غير أخلاقية شارك فيها أصحاب نفود وسياسيين ورجال أعمال ومصرفيين عبر الدخول في مقايضات مبادلة مخاطر الائتمان على سداد الديون الخارجية أو CDS بالتزامن مع "دفش" الدولة لعدم سداد ديونها ما أدى إلى جَنيهم ملياري دولار.
يوضح نعمة: "الـ Credit default swap هو بمثابة بوليصة تأمين على السندات. هو منتج مالي يباع في الأسواق المالية العالمية يستثمر فيه بعد رصد دول ذاهبة نحو الافلاس فيتمّ شراء هذه البوالص. والفارق بين الشراء في مرحلة ما قبل الافلاس والبيع بعده يؤمّن أرباحاً كبيرة للمضاربين. وفي آذار الفائت باعت مصارف سندات إلى الخارج حتى تتخلّص منها وتدخل سيولة، وبدأ الهلع ينتشر في الأسواق. بالتأكيد هذا المسار كان يحتاح إلى تخطيط أو تأجيل، لتخفيف تداعياته، مع تنسيق كامل بين السلطة التنفيذية والنقدية لأنّ المسؤولية مشتركة".
لكن ما التأثير المباشر على الوضع المالي والاقتصادي والنقدي بعد مرور أشهر على تخلّف الدولة عن سداد ديونها من دون التمكّن من التفاوض مع الدائنين؟
يردّ نعمة: "هناك أزمة مالية عامة، وسيكون هناك إقبال أكثر على طباعة النقد الذي يوصل إلى تضخّم أكبر في ظل عدم وجود من يموّل الدولة. نحن عملياً أمام ما يسمّى Spirale Inflationniste أو دائرة تضخّم لا يمكن الخروج منها"، مضيفاً أنّ "الحلّ الوحيد يكون بضخّ دولارات من خارج لبنان إلى داخله. والقرار سياسي بالدرجة الأولى بإعادة التمويل أو الضخّ عير صندوق النقد المجتمع الدولي. والمفتاح الأساس وجود حكومة فاعلة".
ويؤكّد نعمة: "على الجميع تحمّل المسؤولية. وحكومة دياب ليست بالتأكيد سبب الأزمة، لكن كان يفترض أن تدير الكارثة بأفضل الممكن. وقد حصل تخبّط في اتّخاذ القرار ووقعت خلافات كبيرة مع السلطة النقدية، ما أوقف التفاوض مع صندوق النقد وأدّى الى تدهور العملة. فيما واظب مصرف لبنان على طباعة النقد ما أوصلنا إلى تضخّم مفرط".
ويختم: "سنذهب نحو انهيار أكبر في ظل عدم وجود حكومة قادرة على إعطاء الشأن الاقتصادي والاجتماعي أولوية دون تدخلات سياسية، وغير قادرة على خوض مفاوضات جدّية مع صندوق النقد لإدخال الدولار الى لبنان".