إيلي الفرزلي
تداعيات الانهيار لن تنتهي. لكن الحكومة تعتمد الترقيع لحل المشكلات التي تواجهها. أزمة الفارق في أسعار الصرف وتأثيرها على الشركات التجارية عالجها وزير المالية بالسماح لها بتسجيل تعاملاتها بحسب السعر الفعلي للدولار. ذلك أول اعتراف رسمي بالسوق السوداء، لكنه ينطوي على إرباك إضافي سيطال الإدارة الضريبية والمحاسبية. لكن الخوف الفعلي يبقى في أن يسمح القرار للشركات بالتهرب الضريبي وتحويل ودائعها نحو السوق العقاري، بما يتيح أيضاً للمصارف التخلص من عبء هذه الودائع.
مصطلح جديد أضيف إلى المصطلحات التي فرضتها الأزمة المالية والنقدية. بعد السعر الرسمي للدولار وسعر المنصة وسعر السوق السوداء وسعر مبيع الشيكات المصرفية، ينضم «السعر الفعلي للدولار» إلى اللائحة. السعر الفعلي هو عملياً سعر السوق، لكن وزارة المالية استعملته، ربما، لأنه أقل حدّة وإحراجاً. لكن ذلك لا يلغي اعترافها بسعر السوق السوداء رسمياً.
ففي مذكّرة رسمية صادرة في اليوم الأخير من العام، سمح وزير المالية للشركات التجارية بتسجيل تعاملاتها الدولارية التي تتم بحسب سعر السوق في ميزانياتها، وبالتالي في الميزانيات المقدمة إلى الإدارة الضريبية.
بين السعر الرسمي والسعر الفعلي ما يقارب سبعة آلاف ليرة للدولار. ولذلك، يشير نقيب خبراء المحاسبة سركيس صقر إلى أن المؤسسات كانت تعاني من واقع غير مقبول، مفاده أنها تشتري بسعر السوق ثم تضطر إلى تسجيل العمليات بالسعر الرسمي. ذلك أدى، بحسب صقر، إلى حالة من الفوضى المالية، وإلى وجود ميزانيات لا تعبّر عن الواقع الفعلي للشركات، وبالتالي للاقتصاد.
وزير المالية غازي وزني يعتبر القرار الذي أصدره في 31/12/2020، بناء على توصية من المجلس الأعلى للمحاسبة، «خطوة إصلاحية ضرورية». يوضح وزني أن المؤسسات والشركات التجارية كانت مضطرة إلى إجراء العمليات بالدولار النقدي وتسجيلها بالسعر الرسمي، بما يؤدي إلى إشكالات محاسبية كبيرة. فعلى سبيل المثال، عندما تشتري شركة سلعة بألف دولار على سعر 8000 ليرة للدولار، تكون قد دفعت ثمنها عملياً 8 ملايين ليرة. ومع افتراض إعادة بيعها بسعر 9 ملايين ليرة، فإن الربح المحقق يكون مليون ليرة، هو المبلغ الذي يكون خاضعاً للضريبة. لكن لأن الشركة ملزمة بالتصريح عن سعر السلعة بالسعر الرسمي، أي مليوناً و515 ألف ليرة في هذه الحالة، يكون الربح المحقق دفترياً هو ما يقارب 7.5 ملايين ليرة، يجب دفع الضريبة عليه، ما يؤدي إلى خسائر فادحة تتكبدها الشركات. وبالتالي، يوضّح وزني أن القرار سمح بتسجيل الميزانية بالسعر الواقعي للدولار في تاريخ إجراء العملية، ما يعطي المجال لتكوين ميزانية حقيقية.
القرار الذي يحدد «أصول تسجيل العمليات التجارية وعناصر الأصول والخصوم في السجلات المحاسبية، الحاصلة أو المكتسبة بعمليات أجنبية تتأثر قيمتها بتقلّبات أسعار تلك العملات»، يشرّع، في مادته الثانية، تسجيل الأصول الثابتة والمكتسبة بالعملة الأجنبية في سجلات المؤسسة بتكلفة الحصول عليها بالليرة اللبنانية وفقاً للقيمة الفعلية للعملية بتاريخ حصولها، وتعتمد تلك القيمة عند وقف الحسابات ويتم استهلاكها على هذا الأساس.
كما ينص القرار على وجوب أن تمسك المؤسسات حساباً خاصاً إضافياً لصندوق العملات الأجنبية التي يتم شراؤها، يبيّن قيمة ما استعمل من تلك العملات في تمويل العمليات التجارية مع المورّدين أو ما استعمل منها في عمليات أخرى.
أكثر من عشرة اجتماعات عقدها المجلس الأعلى للمحاسبة الذي يضم: المدير العام للمالية العامة في وزارة المالية، مدير الواردات في الوزارة، مدير الضريبة على القيمة المضافة، رئيس لجنة الرقابة على المصارف، نقيب خبراء المحاسبة مع خبيرين من النقابة، مندوب عن غرفة التجارة ومندوب عن جمعية المصارف.
وقد خرجت هذه الاجتماعات بتوصية إلى وزارة المالية بضرورة اعتماد «السعر الفعلي» لإنهاء حالة التخبّط التي تواجهها إدارات المؤسسات، إضافة إلى المحاسبين والسلطات الضريبية، من خلال تشريع تسجيل سعر للدولار غير السعر الرسمي.
المشكلة التي حتّمت هذا الإجراء، بحسب صقر، هي عدم إمكان تقديم مستندات تثبت سعر الصرف، فالصرافون المتعاملون بسعر السوق لا يعطون إيصالاً بالعمليات التي تتم، فيما تفرض القواعد المحاسبية وجود قيد لكل عملية. القرار الوزاري، سمح بتسجيل هذه العمليات حتى لو لم تتوافر القيود، بما يؤدي عملياً إلى تكوين ميزانيات صحيحة.
مقابل التأكيد على أهمية القرار لإعادة تكوين حسابات صحيحة، يرى النقيب السابق لخبراء المحاسبة أمين صالح أن القرار هو لزوم ما لا يلزم، لأن قواعد المحاسبة اللبنانية والدولية تنص على إمكانية تسجيل كل عمليات المؤسسات الاقتصادية الجارية بعملات أجنبية بتاريخ حدوثها وفقاً لسعر الصرف السائد (المعمول به). وبالتالي، يؤكد صالح إمكانية استخدام سعر الصرف السائد، على أن يجري، في نهاية العام، تقييم الحسابات والأصول والخصوم (ليس المبيعات والإيرادات) بسعر الصرف المعترف به رسمياً. وبالتالي، كانت تكفي الإشارة إلى تطبيق معايير المحاسبة الوطنية والدولية، حتى يكون بالإمكان اعتماد السعر السائد، وهو في هذه الحالة سعر السوق. لكن أما وقد أشارت الوزارة إلى «السعر الفعلي»، فتكون قد أحدثت ارتباكاً في السوق وبين المحاسبين، ففي نهاية العام على أي سعر يجب أن تقفل المؤسسات حساباتها؟
يقول صالح إن القاعدة الأساسية للمحاسبة هي إثبات القيمة الفعلية للعملية في تاريخ حدوثها، وهذا يمكن إثباته عبر قيود من خارج المؤسسة (إيصالات) أو من داخلها (بيانات). كما يوضّح أنها ليست المرة الأولى التي يتم التعامل فيها مع أسعار مختلفة للدولار. فقد حدث ذلك في بداية التسعينيات، كما في الفترة اللاحقة، حيث صار سعر الدولار يراوح بين 1500 ليرة و1550 ليرة. فالبرغم من وجود هذا الفارق، كانت «المالية» تأخذ بالتصريح المقدم من الشركات بالسعر الذي اشترت فيه الدولار.
مشكلة إضافية يفرضها القرار، يقول صالح. ففي ظل عدم وجود جهة تحدد السعر الفعلي، يسأل: كيف سيتعامل المحاسبون أو مراقبو الضرائب مع واقع أن السعر الفعلي سيختلف بين مكلّف وآخر وبين منطقة وأخرى؟
الأخطر بحسب مصادر قانونية متخصصة في الشؤون المحاسبية أن التعميم سيفتح الباب أمام استحواذ الشركات على عناصر الملكية العقارية، ولا سيما الأبنية التي تخضع للاستهلاك، وعلى نحو يمكن هؤلاء من تحويل ودائعهم نحو السوق العقاري، طالما أنها ستسجل في باب الأصول، ومن ثم ستخضع لمعدلات الاستهلاك، بما يتيح للمصارف التخلص من عبء هذه الودائع مع إخضاعها للاقتطاع الفعلي بنسبة معدل حسم الشيكات المصرفية في السوق السوداء.
كذلك تُحذّر المصادر من إتاحة القرار لإمكانية تسجيل الخصوم (الأعباء) في السجلات على أساس السعر الفعلي بغضّ النظر عن سعر الصرف المحدّد بتاريخ الحصول عليها، على نحو يجعل فروقات سعر الصرف من الأعباء القابلة للتنزيل من الربح الخاضع للضريبة، وهو ما يعني فتح باب جديد من أبواب التهرب الضريبي.
تقول المصادر إن القرار يشكل مادة خصبة للتهرب الضريبي وفي أكثر من مكان. وعلى سبيل المثال، يتيح عدم وجود مرجعية لتحديد سعر السوق أو ما يسمى السعر الفعلي، إمكانية تسجيل أسعار مخالفة للواقع في سبيل التهرّب الضريبي.
لا ينفي نقيب المحاسبة احتمال شراء الدولار على أساس 8000 على سبيل المثال وتسجيله على أساس 8500، بهدف تخفيض الأرباح، لكنه يشير إلى أنه إن حصل ذلك، فلا بد أن يُكشف عند استعمال الأموال في عمليات الشراء أو البيع، التي ستُقيّد عند الزبون أو المورّد. صقر يؤكد أيضاً أن الإجراء ليس مثالياً، لكنه يعتبره الحل الأنسب حالياً لمعالجة هذه الثغرة التي تؤدي إلى غياب الدقة في إعداد الميزانيات.
الأمر مختلف بالنسبة إلى صالح المشكلة الفعلية تتعلق بالفوضى التي سيحدثها القرار. أما مسألة التهرب الضريبي فيعتبر أنها بحاجة إلى مقاربة مختلفة بالنسبة إلى العامين 2019 و2020، انطلاقاً من أن الحسابات الخاصة بهما ستتضمن مشاكل عديدة، وستكون صعبة ولن يكون بالإمكان قراءتها بشكل سليم، ما يستوجب معالجة جذرية. المعالجة بالنسبة إليه تبدأ من تحمّل الدولة لمسؤوليتها، بصفتها المسؤولة عن الإرباك الذي حصل، خاصة أن الشركات لا تعرف بعد إن كانت ستربح أو ستخسر، فيما يستمر غياب أي رؤية للمعالجة المحاسبية والضريبية أو حتى سياسة ضريبية هادفة.