النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس
بعد فقرة "ناقوس في أحد" الأحد الماضي عبر "صوت كل لبنان"، تملّكتني رغبة البقاء في صحبة الطير، كوسيلة مواربة للابتعاد عن السياسة ولو من غير انفصال، وكمحاولة للاحتفاظ بمناخ الفكاهة التي طالما دَرَأْتُ بها السوء والجهالة بل كنت أودّ أن أحدّثكم عن الطاووس والديك التركي، وكذلك عن الوطاويط التي عششت في ردهات الاعياد فألبستها السواد، لكنّ أمورًا تراكمت فعمَّقَت في نفسي المرارة العامة والأسف الشخصي، حتى لم يبقَ أمامي إلا هذا "الناقوس"، تترجَّعُ أصداؤه في مسامع أصدقائه وقلوبهم؛ أولئكَ الذين ألَّفَت بيننا المودَّةَ علاقاتٌ شخصيةٌ، ومعرفةٌ روحية، فباتوا في هذه الدقائق موضع اهتمامي بالدرجة الأولى، علماً أنني أعرف تماماً أنّ كثيراً منكم يعيد توزيع الرنين على دوائر أوسع فأوسع من أصدقائهم، فأكون بهذا قد أوصلت ظلامتي إلى ذوي العقول السويّة والنفوس الخالية من الغرائز والعشوائية والتلهف، والشبق لرؤية الرؤوس المتدحرجة، في مناخ يذكر "بالكولوزيوم" الروماني وعصوره الدموية.
أبدأ بالإشارة إلى أني على مدى أعوامي الثمانين، لم أنزلق قولاً ولا ميلاً ولا تصرفاً إلى جبّ الطائفية، لأنني بالولادة، لم أتلقن من أبويَّ، على محدودية علومهما إلا الانفتاح والتحرر. وتعزّز هذا فيَّ بانتسابي إلى مدرسة واحدة هي الكلية الوطنية الأرثوذكسية القائمة في براح كنسية مار الياس، حيث تلقفت بعضًا من العلوم، وكثيراً من المعرفة والتحرر الفكري على أيدي المرحومين مكاريوس موسى والمطران بولس بندلي والقديس كوستي بندلي وحسيب غالب وحليم يازجي وكامل درويش وأليس أيَّا - متّعها الله بالصحة -، كما كنت أديم حضور الدروس الدينية التي كان يلقيها علينا العقل الذهب الخوري جورج خضر قبل سيامته مطراناً على جبل لبنان.
أقول هذا، لأنني صُعقت بكلمة "انتو" التي خاطبتني بها النائبة المستقيلة في حوار مع جورج صليبي على شاشة N.T.V. .
أوقفتها فوراً، وطالبتها بالاعتذار عن محاولة عقيمة لحشري في مُتّحد طائفي أو مذهبي، علمًا أن موضوع الحوار كان قانونيًّا دستوريًّا ولغويًّا أيضًا، حاولت فيه السيدة النائبة أن تجرّ حرف اللام في المادة 70 من الدستور (لمجلس النواب)، إلى ما لا يعنيه النصّ بابتكار صلاحية احتياطية لا تعرفها علوم القانون، فاللام هنا لام الملكية كما يقول اميل يعقوب، كما أن القول "للّه الأمر من قبل ومن بعد" لا يجعل سلطة الله، والعياذ به، سلطة احتياطية. فلمّا حاولت أن أعيدها إلى البحث القانوني بعيدًا من حماسة الإثارة ودحرجة الرؤوس الكبيرة، وإن من خارج السياق والإجراءات القانونية، محذرًا من أن التهليل لقاضي التحقيق المحترم وشدّ أزره بالتصريحات والمظاهرات يسيء إليه وإلى التحقيق الذي يجب أن يبقى سريًّا حميمًا فلا يفقد عذريته أو بكارته، انبرت لي جوقة مريبة، لست أدري إن كانت أفكارها السياسية قد غادرت كبت المراهقة رغم طول المراس، فانتشرت شعارات تتهمني بالرجعية والذكورية وحراسة غشاء البكارة، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى البرامج الترفيهية حيث خرج على الشاشة شاب وسيم قال فيَّ كلامًا غير وسيم، فحاولت الصديقة الإعلامية الكبيرة دوللي غانم أن تلفته إلى حقيقة المعنى الذي قصدته، فأبى أن يسمع، فتذكّرْتُ أننا يوم كنا صغارًا وشبابًا كنّا نخالفُ آباءَنا في أمورٍ كثيرة، لكننا لم نتهجَّمْ على أحدٍ منهم، ولم نقلْ أفٍّ ولم ننهرْ كبيرًا، فما بالُ أبنائنا اليوم المهللين لحرية التعبير يعيبون علينا بجهلٍ وقسوةٍ تشبيهًا جليَّ المقاصد؟ ثمَّ من أوقفهم ناطقين باسمِ الجنسِ اللطيف عن بِكرةِ بَناتِه، كأَّنَّهنَّ كلَّهنَّ يقلْنَ بما يقولون؟ وإذ أكتفي بهذا القدر من تهمة الذكورية، أذكِّر بأنني أبو البنتين وجد الحفيدتين وأخو الشقيقة والزوج المحب والمطيع لزوجته كما أسلفت القولَ على شاشة المنار، وها أنا أستشهد ببيتين من الشعر لبدوي الجبل القائل:
ما لأبنائنا تجنَّوْا علينا وغَفَرْنا ما كانَ سهوًا وقصدا
إن شرَّ الأمورِ ظلمُ الجماهيرِ وأَهْوِنْ بالظّلْمِ إن كانَ فَرْدا
كما أستشهد بصلاح عبد الصبور إذ يقول:
أعطيك ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارَهْ
لقاء يوم واحد من البكارة...
فالبكارة والعذرية من صفات الطهارة في الأدب العربي كما في اللغات الأخرى. وربما كان يجدر بي أن أتجلّد حيال هذا، إذ سبق لي أن شُنَّتْ عليَّ حملة مماثلة أثناءَ تَوَلِّيَّ وزارة الشؤون الاجتماعية، إذ حمّلتني مجلةٌ قانونية وأخرى سياسية مسؤولية أعمال فاضحة قيل أنها حصلت في إحدى دور الرعاية قبل اثنتي عشرة سنة من تعييني وزيرًا، حتى لقد أطلقوا عليَّ لقب (وزير الاغتصاب)، فكان ذلك موضع سخرية وتندّر وتعليقات أعفّ عن ذكرها.
آخر المرارات جاءتني بعد اتصال هاتفي من زحلة، أجراه معي رجل لطيف من غير سابق معرفة، فأخبرني إنه الدكتور الطبيب بشارة سماحة أستاذ polytechnique في كلية الطب في هارفرد، وبصوت متهدِّجٍ قال لي إنه سعى لمعرفة رقم هاتفي بعدما صدم من مداخلتي صباح الأحد عبر إذاعة "صوت لبنان"، ثم ما لبث أن أجهش بالبكاء فعلمت منه أنه فقد أباه في الانفجار اللئيم، وسألني إن كنت أوافق على تملّص الرؤوس الكبيرة من مسؤولية الانفجار.
أصدقكم القول أنَّ كلامه أرّقني الليل بطوله إلى أن كان الصباح، فهاتفته وتحدثت إليه طويلاً، وقلت له:
علينا أن نحذر الانجرار من نبل البحث عن حقيقة الجريمة إلى الاستسلام للغرائز، لأن هناك من يحاول استغلال القرارات القضائية لإعادة إنتاج الانشطار الطائفي، كي يحتمي كل مرتكب بالظل الطائفي السقيم.
كان حوارًا فتح لي باب صداقة مع شخصية مهمة، تبادلت وإيّاها الآراء، فعوّضني ذلك عن المرارة، كما عوَّضَني عنها أيضًا التعليق الرصين الذي بثه يوم الاثنين الماضي الدكتور سامي نادر من "صوت كل لبنان"، حيث أكد أن المسائل القانونية من الدقة والخطورة بحيث تمتنع على الذين يهرفون بما لا يعرفون.
بلدٌ تُرْتَجَلُ فيه السياسةُ والقيمُ والمبادئ القانونية، ويقيمُ كلُّ واحدٍ لنفسه منبرَ خَطابةٍ فيما يعرف ولا يعرف، ويملي مواقفه كأنها وحيٌ أُنزِلَ عليه من علِ، فإن قلتَ شيئًا من اختصاصك، فلك الويلُ والثبور... من تهمةِ الذكور... والخوضِ في الدستور.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا