ليا القزي
تُريد المصارف تسديد التزامات خارجية مُستحقة مع مصارف المراسلة، وتكوين حساب خارجي بما لا يقلّ عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية. ولأنّها لا تملك الدولارات، ولا يُريد أصحابها وكبار المُساهمين المسّ بثروات تراكمت من أموال الناس، تختار المصارف شراء الدولار من السوق السوداء وتحويله إلى الخارج، ما يُهدّد بارتفاع سعر الصرف خلال الشهرين المُقبلين.
قادت التحقيقات مع الصرّافين، في أيار الماضي، إلى «الاشتباه» في أنّ مصرف «سوسييتيه جنرال» يشتري الدولارات من السوق عبر «بيع» رواتب موظفي القطاع العام والمودعين، ويُحوّلها إلى الخارج (راجع الأخبار الخميس 21 أيار 2020)، وهو ما اعترف به مُدير العمليات النقدية في المصرف. الاعتراف أتى بعد الاستماع إلى صرّافين (راجع الأخبار الأربعاء 13 أيار 2020 ) قالوا إنّ مصرف لبنان مسؤول رئيسي عن تدهور سعر الليرة، من خلال شراء الدولارات من الصرّافين بسعر مُرتفع، ما ساهم في زيادة سعر صرف الدولار في مقابل الليرة. سبعة أشهر مرّت، والمصارف لم «ترتدّ»، ولا تزال مُستمرة في «اللعب بالسوق». الدائرة لم تعد محصورة بمصرف أو اثنين، بل توسّع «البيكار» ليشمل عدداً أكبر من المصارف التي تبيع شيكات مصرفية بـ36% من قيمتها، لقاء الحصول على دولارات نقدية. المصارف رهينة «ورقة خضراء»، مُجبرة على تأمينها بهدف تكوين حسابات لها في الخارج (بموجب تعميم مصرف لبنان الرقم 154) بما لا يقلّ عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لدى كلّ مصرف. المُهلة تنتهي في 28 شباط 2021، ومصرف لبنان في تعميمه لم يُحدّد ضرورة تأمين المبلغ من خارج لبنان، ومجلس النواب لم يُقرّ قانون القيود على التحويلات المالية، ما وفّر الغطاء للمصارف لاستغلال السوق اللبناني والضغط أكثر فأكثر عليه.
توقّعات عدد من الصرّافين والأشخاص الذين يشترون الشيكات من المصارف تؤكّد أنّ «سعر الدولار في السوق سيصل إلى رقم مرتفع في الشهرين المُقبلين بسبب ارتفاع الطلب عليه من جانب المصارف التي هي بحاجة (مُجتمعةً) إلى تأمين نحو 3 مليارات و400 مليون دولار لإيداعها في حساباتها لدى المصارف المُراسلة». صحيح أنّ المصارف ليست وحدها المسؤولة عن تدهور سعر الصرف، في ظل عوامل أخرى (الضغوط الاقتصادية، تأليف الحكومة، نجاح أو فشل المبادرات الأوروبية...)، لكنّها «مسؤول رئيسي» عن ذلك. عملياتها تتمّ بغطاء من «مُنظّم» القطاع، مصرف لبنان. الـ«أداة» في هذه الحالة هي التعميم الرقم 154، الذي إضافةً إلى عدم منعه تحويل الدولارات من لبنان لتكوين حساب الـ3%، تساهل مع المصارف عبر السماح لها بزيادة رؤوس أموالها بنسبة 20% من الرأسمال (كما كانت في 31 كانون الأول 2018) عبر إعادة تقييم الأصول العقارية الموجودة أساساً في حوزتها، أو تقديم المساهمين لعقارات بدل السيولة، أو تحويل بعض الودائع إلى أسهم، أو إضافة الأرباح الناتجة عن عمليات البيع حتى لو من داخل البلد. «المركزي» لا يصرف النظر حصراً عن شراء المصارف للدولارات بنسبة كبيرة، ولكنّه أيضاً حوّل لها، خلال الأشهر الماضية، دولارات لتسديد التزامات خارجية. قد يكون ذلك «مقبولاً» في أوضاع طبيعية تحتاج فيها المصارف إلى جرعة دعم حتى لا تنهار كلّياً، ولكنّ المستغرب أن يتزامن استمرار الضغط على سعر الصرف وتحويل مصرف لبنان الدولارات للمصارف إلى الخارج (من حساب التوظيفات الإلزامية في مصرف لبنان) مع التهديد بالتوقّف عن دعم استيراد مواد رئيسية، بحجة أنه لم تعد هناك دولارات كافية، وتصوير «الدعم» على أنّه أصل العلّة التي يُعاني منها الاقتصاد. بحسب نشرة «بلوم انفست»، انخفض صافي الأصول الأجنبية لمصرف لبنان بمقدار 12 ملياراً و45 مليون دولار، وفي الوقت نفسه ارتفع صافي الأصول الأجنبية للمصارف التجارية مليارين و46 مليون دولار خلال الفترة نفسها.
لا توجد إحصاءات دقيقة حول العجز في الحسابات لدى المصارف المراسلة (الفارق بين موجودات المصارف اللبنانية والالتزامات)، ولكن مصادر مُطلعة تؤكد أنّ «أكثرية المصارف سدّدت التزاماتها المُباشرة، أي التي استحقت، وتدنّى العجز إلى حدود المليار دولار». كيف حصلت على الدولارات؟ معدودة هي المصارف التي استخدمت أصولاً خارجية لتسديد الالتزامات وتكوين حساب الـ3%، والقسم الأكبر منها «يبيع شيكات مصرفية لصرّافين وتجّار الدولارات مقابل 36% من قيمتها (مثلاً إذا كان الشيك بـ100 ألف دولار، يحصل المصرف على 36 ألف دولار نقداً)». المبالغ المطلوبة كبيرة ووتيرة هذه العمليات سترتفع خلال الشهرين المُقبلين، ما يُنذر بارتفاع سعر الصرف. تزيد هذه «التجارة» من الخسائر في موازنات المصارف، ولكنها تعتبرها خسائر مُرحّلة. ولا يختلف ذلك عن الخسارة التي تتحمّلها المصارف حين تقوم بتجميد وديعة «الدولارات الطازجة» 2.7 مرّة ضعف المبلغ، وهي مُستمرة بتقديم هذا المُنتج، كإحدى أدوات الحصول على الدولارات لتحويلها إلى الخارج. لا تُبالي المصارف، وهي تبحث عن حبل خلاصها، بتنفيذ «هندسات» تُعمّق أزمات المجتمع. اللافت أنّ أحداً منها لا يُفكّر باستخدام ثروات أصحاب المصارف وكبار المُساهمين لإعادة إصلاح القطاع المصرفي، بعد أن ضاعفوا تلك الثروات من المال العام وأموال المودعين.
تسديد المبالغ المتراكمة على المصارف، وتكوين حساب خارجي بما لا يقلّ عن 3% من مجموع الودائع بالعملات الأجنبية، كلفتهما كبيرة على الوضع في لبنان، ولا سيّما في المجال النقدي، لأنّهما يسحبان الدولارات من السوق ويُحولانها إلى الخارج، ما يعني زيادة العجز في ميزان المدفوعات (بلغ في الأشهر العشرة الأولى قرابة الـ10 مليارات دولار)، وارتفاع سعر الدولار في السوق. في المقابل، من غير المضمون أن تحل الإجراءات المصرفية الخلاف مع مصارف المراسلة، المُستمرة في التضييق على التعاملات مع المصارف اللبنانية، وتتشدّد أكثر في فتح الاعتمادات أو تطلب تسديد قيمتها فوراً.