خالد أبو شقرا
يستمر المقترضون والمصارف بلعبة "القط والفار". الطرفان يحاولان الاستفادة من وقت "ثبات سعر الصرف" الضائع، لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب. فالبنوك غير القادرة على تحصيل حقوقها كاملة من المقترضين، ما زالت تلاعبهم من دون أن "تقضي" عليهم. في المقابل لا ينفك المقترضون بـ"اثارة غيظ" المصارف بمحاولة المستحيل لدفع سنداتهم بالليرة اللبنانية حيناً، وبعدم تسديد سنداتهم أحياناً كثيرة.
تقدّر ديون المصارف على القطاع الخاص بالعملة الأجنبية بحوالى 33 مليار دولار، وهي تشكل ما نسبته 70 في المئة من مجمل القروض. والسؤال الجوهري يتحمور حول مصير هذه القروض في حال تحرير سعر الصرف أو تخفيضه إلى 4 أو 5 آلاف ليرة أو أكثر. فاليوم، وعلى الرغم من السماح للمقترضين الأفراد الذين لا يملكون حسابات بالدولار، بتسديد قروضهم بالليرة على أساس 1507.5، فان نسبة التخلف عن السداد ترتفع باضطراد. وقد فاقت نسبة الديون الهالكة في مجمل القطاع الخاص 25 في المئة، وهي تتركز بشكل خاص في القروض الاستهلاكية.
كيفية تسديد القروض بالدولار
منذ إنطلاق الأزمة في نهاية العام 2019 ولغاية اليوم، لم يصدر سوى تعميم وسيط واحد من مصرف لبنان حمل الرقم 13260 لتنظيم العلاقة بين المقترضين والمصارف. فسمح للمقيمين الذين لا يملكون حساباً بالدولار بتسديد قروض التجزئة بالليرة على سعر صرف 1507.5. إلا ان "المصارف غير ملزمة بقبول تسديد كامل القرض بالدولار سلفاً بالليرة"، يقول الرئيس التنفيذي لـ "بنك لبنان والمهجر" د. أمين عواد، "لأن هذه الطريقة تخسّرها الفوائد على القرض". أما بالنسبة إلى القروض التجارية فان المصارف تطبق التعميم لجهة إلزام المقترضين المحليين بالتسديد بنفس عملة القرض، مع إمكانية الدفع بـ"الدولار المحلي" أو "اللولار"؛ أي عبر شيك مصرفي أو حوالة أو تحويل مالي. ومن غير المقبول بحسب عواد محاولات المقترضين "اللجوء إلى العرض والإيداع بالليرة لدى الكاتب العدل، على أساس سعر الصرف 1507,5. فهذه "شطارة" غير مقبولة، والقضاة لا يقبلون بها، ذلك لأن مصرف لبنان لا يبيعنا الدولار، الأمر الذي يعرض المصرف للمخاطر". أما في حال كانت الشركة "أوف شور" أو غير مقيمة، فهي مجبرة على السداد بالدولار "الطازج".
الحلول مغيّبة
على الرغم من المخاطر الكبيرة التي سيسببها تغير سعر الصرف على المقترضين والمصارف، فانه لم يجر لغاية اللحظة أي بحث جدي في كيفية التعامل مع قروض الدولار. فبحسب عواد ان "مثل هذا القرار سيؤدي حتماً إلى تمنّع قسم من المقترضين عن الدفع، مما يرفع نسب الديون الهالكة أو المعدومة إلى معدلات كبيرة. وبالتالي سيدفع بالمصارف إلى مصادرة الرهون وبيعها بالمزاد العلني". وبرأيه فان هذا الوضع الدقيق جداً "يدفع مصرف لبنان للمحافظة على سعر الصرف 1507.5 بشكل اصطناعي". من جهة أخرى فان امكانية وصول الديون المعدومة إلى 50 في المئة بسبب ارتفاع حالات الصرف من العمل واقفال المؤسسات، ستؤدي إلى خسارة المصارف قيمة توازي كل رأسمالها الحالي ويعقد أوضاعها أكثر.
كارثة تثبيت سعر الصرف
المحامي أنطوان مرعب يعيد سبب المشكلة الحاصلة اليوم بين المصارف والمقترضين إلى الخطأ التاريخي القاتل بتثبيت سعر الصرف في العام 1997 بقرار شخصي من "الحاكم". وهو خطأ تتحمل المصارف مع مصرف لبنان مسؤوليته. "فهي من شجع على الاقتراض بالدولار بمعدلات هائلة وبفائدة منخفضة". وبرأيه فقد "أصبح من المستحيل بقاء سعر صرف الدولار على 1507.5 شاء مصرف لبنان أم أبى. فالمادة 229 من قانون النقد والتسليف التي ضرب بها بعرض الحائط، تنص على ان السعر القانوني لليرة هو السعر الاقرب ما يكون إلى السوق الحرة. فثبات سعر الصرف اصطناعياً لم يستفد منه إلا كبار التجار الذين باعوا بأسعار رخيصة نسبياً، والمضاربون في سندات الخزينة، الذين كانوا يحوّلون الفوائد الهائلة الناتجة عنها إلى دولار".
تداعيات تبخر الدولار من النظام المصرفي ككل ستكون كارثية على كل القطاعات، ومنها القطاع المصرفي. فالمشكلة التي تواجه لبنان اليوم لا تتعلق بانخفاض سعر الصرف بل بعدم وجود النقد الأجنبي. وذلك على عكس الفترة التي ارتفع فيها الدولار مقابل العملة الوطنية إلى 3 آلاف ليرة في بداية التسعينات، "وقتذاك لم يشعر المواطنون بهذا الضغط، إذ عمد الكثير من المؤسسات إلى إعطاء الموظفين راتبين: الاول بالليرة تحسم منه الضرائب والاشتراكات، والثاني بالدولار. الأمر الذي حمى المؤسسات والمصارف وحافظ على القدرة الشرائية للمواطنين"، يقول مرعب. "أما اليوم فان سياسة تثبيت سعر الصرف "أفقرت الجميع"، حتى إنها قضت على مورد لبنان شبه الوحيد بالعملة الأجنبية المتمثل بتحويلات المغتربين".
ديون المصارف على القطاع الخاص لا تقل خطورة عن توظيفاتها في مصرف لبنان واستثمارتها في سندات الخزينة و"اليوروبوندز"، التي تعثرت الدولة عن سدادها. وفي حال العجز عن إيجاد مخرج ملائم لهذه المعضلة، فان قسماً كبيراً من المقترضين سيخسر جزءاً من ممتلكاته، سواء كانت سيارة أو منزلاً أو متجراً أو خلافه. وبالمقابل فان المصارف لن تستفيد من قيمتها الفعلية نتيجة إنهيار الأسعار وصعوبة تسييلها بعد مصادراتها، فاصبحت المصارف كمن يضغط على "لغم" أرضي، لا هو يستطيع الثبات فوقه، وأي حركة خاطئة تؤدي إلى انفجاره.