طوني أبي نجم
تُتقِن الطبقة السياسية في لبنان البحث عن ضحاياها، عن "كبش محرقة" تُلبسه كلّ موبقاتها. بعد انتهاء مرحلة الحرب الأهلية، بحث قادة الميليشيات المتقاتلة، وبرعاية النظام السوري، عن ضحية يقدّمونها إلى اللبنانيين، فاختاروا سمير جعجع. ألبسوه كلّ خطاياهم، فحرّضوا عليه في الإعلام، وصوّروا "القوات اللبنانية" على أنّها الميليشيا الوحيدة، وكأنّها كانت تقاتل نفسها.
فبركوا له الملفّات، وفتحوا قضايا محدّدة لإلباسها له ومحاكمته. حرّكوا الإعلام ضدّه بشكل غير مسبوق، ولن ننسى على سبيل المثال لا الحصر، لا عناوين صحيفة "السفير" وتحريضها، ولا حلقة الزميل زافين قيومجيان ضمن برنامج 30/31 عبر تلفزيون لبنان يومها التي أُعدّت بإتقان في غرف الأجهزة السوداء للتحريض على جعجع في جريمة اغتيال الشهيد داني شمعون وعائلته قبيل اعتقال "الحكيم". حتّى خلال الحرب، لم يسلم سمير جعجع من مكائد أهل بيته. في قضية مجزرة إهدن، قرّر حزب "الكتائب اللبنانية" العملية العسكرية يومذاك، واختار بعناية سمير جعجع الذي أُصيب في الساعات الأولى للعملية ولم يصل إلى قصر آل فرنجية، لكنّ الدعاية السياسية أصرّت على تحميل جعجع وحده مسؤولية المجزرة التي وقعت، في حين غسل المسؤولون عنها أيديهم.
وفي حرب الجبل، طلبوا من سمير جعجع أن يصمد 24 ساعة مع وعد بأن يصل الجيش للمساندة. صمد جعجع 72 ساعة من دون أن يخسر أياً من مواقعه بالرغم من كثافة المهاجمين وقدراتهم، لكنّ الجيش لم يُعطَ الأوامر للتحرّك، فسقط الجبل وتمّ تحميل جعجع المسؤولية... وارتاح المسؤولون الحقيقيون! بنى جعجع المناطق المحررة اعتباراً من العام 1986. حوّل "القوات" جيشاً منظّماً. أجرى عمليات القلب المفتوح للمسيحيين مجّاناً. أقام النقل المشترك ومشاريع توأمة المدن والبلدات اللبنانية مع مدن وبلدات فرنسية، قبل أن يأتي في العام 1989 من دمّر المناطق المحرّرة على سكانها، وأدخل السوريين إليها بحثاً عن الكرسي... ومرّة جديدة، تمّ تحميل سمير جعجع المسؤولية! ولكم تُشبِه مسيرة "الحكيم" العسكرية والسياسية مسيرة رياض سلامة النقدية والمالية. فمنذ أعوام، يتعرّض حاكم المصرف المركزي لحملات مُمنهجة يقودها "حزب الله" والإعلام والشخصيات الدائرة في فلكهما، بهدف تحميله مسؤولية الإنهيار المالي والإقتصادي وإفلاس الدولة.
كان يُفترض بالإقتصاد اللبناني ومالية الدولة أن ينهارا منذ ما قبل العام 2000 بفِعل التمادي في سياسات الإستدانة المكلفة من دون القيام بأي إصلاحات، لا بل على العكس: ضاعفوا عدد موظّفي القطاع العام من 175 ألفاً في العام 2000 إلى 350 ألفاً في العام 2020، سرقوا قطاع الكهرباء (كبّدوا الخزينة حوالى 50 مليار دولار ولا كهرباء) وسرقوا الإتصالات والأشغال، مارسوا التهريب بالمليارات، وأنفقوا من دون رقابة في المجالس والصناديق على هذا الإنفاق، وسط غياب أي رؤية اقتصادية لتحويل الإقتصاد من ريعي إلى منتج.
والأهمّ جرّ "حزب الله" البلد بسلاحه إلى المِحور الإيراني، فعزلوه عن المجتمعين العربي والدولي، فخسر لبنان في 7 أعوام ما لا يقلّ عن 70 مليار دولار، تُضاف إليها حوالى 15 ملياراً من الخسائر نتيجة حرب تموز الـ2006! بالرغم من ذلك، صمد رياض سلامة والقطاع المصرفي، وبقي الوضع النقدي والمالي ثابتاً. حتّى يوم انهارت البورصات والمصارف العالمية في العام 2008، عرف لبنان ازدهاراً مالياً ونمواً اقتصادياً وصل إلى حوالى 9%. ظلّ رياض سلامة يكرّر دعواته الى تنفيذ الإصلاحات المقرّرة في مؤتمرات باريس-2 وباريس-3 وصولاً إلى "سيدر"، من دون أن يلقى آذاناً صاغية. صرخ بأعلى صوته رفضاً لإقرار سلسلة الرتب والرواتب كما تمّ إقرارها في العام 2017، وحذّر المعنيين من أنّها ستؤدي إلى الإنهيار، ولكنّ هاجس الشعبوية والإنتخابات غطّى على أي حسّ بالمسؤولية.
في عزّ التخبّط الإقتصادي وعبثية الطبقة الحاكمة، استمرّ رياض سلامة مع القطاع المصرفي في تأمين القروض السكنية للطبقات الفقيرة، عبر دعم المؤسسة العامة للإسكان، واستمرّ في دعم القروض الصناعية والتجارية عبر مؤسّسة "كفالات"، وبقي اللبنانيون يحافظون على نمط حياة مميّز، خِلافاً للمؤشّرات الاقتصادية الخطرة، ولم يبادر المسؤولون إلى تحمّل أي مسؤولية إنقاذية. لطالما حاول رياض سلامة شراء الوقت، ولو بكلفة مرتفعة، كما حصل مع الهندسات المالية في العام 2016، على أمل أن يتحرّك الحكّام لتنفيذ الإصلاحات فنحمي البلد من الإنهيار، ولكن عبثاً. واليوم مع الوقوع في المحظور، يستمرّ المسؤولون في غسل أيديهم ويحمّلون رياض سلامة وحده المسؤولية: هو مثلاً في الوقت ذاته مسؤول، لأنّه ثبّت سعر الصرف بقرار من السلطة السياسية في كلّ الحكومات، وصولاً إلى تكريس قرار التثبيت في الإجتماع المالي الموسّع الذي انعقد في بعبدا في 4 أيلول 2019، بإجماع جميع رؤساء الكتل النيابية، وكلّن يعني كلّن، وسلامة مسؤول لأنّه لا يتدخّل لتثبيته اليوم! هو مسؤول لأنّه استمرّ في دعم المواد الأساسية، وهو مسؤول أيضاً إذا رفض الإستمرار في الدعم! شنّوا حربهم على رياض سلامة مذ انطلقت العقوبات الأميركية على "حزب الله". ومنذ اندلاع ثورة 17 تشرين، يحاول الحزب مع قسم كبير من الطبقة الحاكمة "التخلّص" من حاكم المركزي لتقديمه كـ"جائزة ترضية" للبنانيين. إنّه السيناريو نفسه للمافيا الحاكمة، من سمير جعجع في الحرب والسياسة، إلى رياض سلامة في المال والإقتصاد: أن تقدّم "الأضاحي" لتستمرّ في حكم البلد ونهب خيراته. تريدون خير لبنان؟ بكلّ بساطة، إذهبوا بعكس ما يطلبه "حزب الله" وإعلامه، ولا تسايروا دعايته التي هاجمت وتهاجم اليوم رياض سلامة، كما لطالما هاجمت سمير جعجع!