علي الأمين
لا تزال مقولة رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل الشهيرة "بريطانيا بخير لطالما القضاء بخير"، وهو في خضمّ الحرب العالمية الثانية وخراب بريطانيا على يد الألمان، تدوّي في حاضرة القضاء العالمي، وتهزّ ضمائر الدول وقضاتها.
رهان قضائي تاريخي يذهب مثلاً في كلّ زمان ومكان، ليحطّ في لبنان، هذه المرّة وكلّ مرّة، مع المحاولات المكشوفة لتطويع القضاء وتدجين قضاته من قبل السياسيين، الذين يُمعِنون في تحويله مطية أو أداة ليفرّوا بأفعالهم أو يرهبون به خصومهم.
صحيح أنّ القضاء اللبناني وقضاته ليسوا في أفضل أحوالهم، وقد أصاب الفساد والهوان والإرتهان بعضاً لا بأس به، لكن هذا لا يلغي أنّ هذا السلك لا يزال يعجّ بقضاة شجعان ونبلاء لا يركنون الّا لصوت ضميرهم، ولعلّ المسار القضائي الأعرج والملتبس والغامض في كثير من الأحيان في التحقيقات الجارية في مقتلة مرفأ بيروت خير شاهد.. ودليل "يندى له الجبين"!.
فعندما يتحوّل أصحاب السلطة والقرار في الدولة، خطوطاً حمراً يمنع المسّ بها من قبل القضاء، يعني ذلك أنّ فرص التوصل الى حقيقة ماذا جرى في هذه الدولة من فساد وإفساد وقتل، ومنها تفجير المرفأ، أصبحت مستحيلة من خلال أدوات العدالة.
وضع الخطوط الحمر لا تكمن خطورته في عدم امكانية كشف متورّطين، بل في أنّه يفتح الباب في أفضل الأحوال الى اعتماد سياسة "كبش الفداء"، التي تقع على الصغار وأدوات التنفيذ لا الجهات الموجهة والتي تحتضنهم وتحميهم، وتبني سلطتها ونفوذها على هؤلاء الموظّفين من مدراء وضباط وسواهم من أدوات السلطة. وتكمن خطورتها أيضاً في أنّ السلطة السياسية المتصارعة والمتحالفة في آن، تسعى الى المقامرة بورقة الإصطفاف المذهبي والطائفي، من أجل حماية وجودها واستمرارها في ما تعتبره ملكاً لها، أي مراكز القرار في الدولة، ولو أدّى ذلك الى مواجهات لا تبدو فرصها متاحة بسهولة بعد انتفاضة 17 تشرين، وما أحدثته من تغيير ملحوظ في وعي اللبنانيين تجاه نظام مصالحهم الوطني. فالإستثمار في العصب الطائفي والمذهبي اليوم، بات "ورقة التوت" الوحيدة التي يراهن أطراف السلطة على بقائها وصمودها في وجه الإنهيار المالي والإقتصادي، الذي كانت المنظومة الحاكمة بنظام مصالحها الضيّق والفئوي وراءه وأحد أبرز أسباب هذا الإنهيار. من هنا، قد يسأل البعض، لماذا لا تقوم هذه المنظومة الحاكمة بتشكيل حكومة، طالما أنّها متحالفة ومتضامنة في ما بينها؟
لا بدّ من إدراك أنّ من حسن حظّ اللبنانيين اليوم، أنّ المجتمع الدولي الذي اعتاد على توفير موارد مالية واقتصادية للبنان، بات في موقع آخر، موقع لا يرى من خلاله أنّ المنظومة الحاكمة في لبنان يمكن الوثوق بها لتوفير الحدّ الأدنى من الإستقرار اقتصادياً ومالياً وحتّى سياسياً، وهذا ما يدفع أطراف السلطة الى سياسة التعطيل، التعطيل لأي خيارات حكومية بديلة من المحاصصة.
ومن حسن حظّ اللبنانيين أيضاً أنّ الطائفية التي شكّلت ركيزة الزبائنية وأساس الخروج على السيادة، باتت متلازمة مع استمرار هذه المنظومة الحاكمة التي لا تنتج الّا المزيد من الإنهيار للدولة والوطن، وهي لا تمتلك ولا تريد الإعتراف ولا تريد الخروج من منهجية الحكم الفاسد الذي بات عاجزاً عن الإستمرار والبقاء.
لذا، فإنّ اطراف السلطة يستغيثون بما تبقّى من اموال المودعين لتحقيق فرص المزيد من البقاء والاستمرار، ذلك أنّ هذه الأموال التي يجري صرفها تحت عنوان الدعم للنفط والمواد الغذائية والدواء، تجري عملية نهب منظّم لها لدعم ادوات السلطة التي تعتاش على الفساد والزبائنية، فيما الخارج بات على ما يبدو يراقب مسار الإنهيار وكوارثه، مُعتقداً أنّ ذلك يشكّل عنصراً مساعداً على التغيير، فيما أطراف السلطة يسيرون في الإتّجاه نفسه، مُراهنين على أنّ الفوضى والفقر وتصدّع الدولة سيعزّز مواقعهم، في اعتبارهم المتسلّطين على طوائفهم، رهانان مخيفان وقاتلان، لكن يبقى أنّ القضاء هو ملح الدولة الذي لا يجب أن يفسد، وهو الذي لم يزل محلّ رهان اللبنانيين وقبله الإنتفاضة التي لم تزل حيّة وتتجدّد كتعبير صادق عن إرادة اللبنانيين بالبقاء والنهوض.