النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس
الحدث يطرد ما قبله، يقول المثل...
خرج اللبنانيون في السابع عشر من تشرين في مظاهرة غلب عليها الفرح والغناء والعلم اللبناني، فتصدّت لهم العصبيات والهراوات، وأقفلت المصارف، ثم أعلنت للمودعين الآمنين، أن عليهم ألا يأمنوا بعد الآن.
هندسوا المالية لاستدراج النقود الخارجية بإغرائها بفوائد مشبوهة، فكانت أكبر عملية قرصنة عرفها لبنان في تاريخه...
حاولت الثورة أن تتجدد، وتسترد زخمها، فوقعت في شرك الشعارات العشوائية والمطالب غير الواقعية، فبات الشعب اللبناني بأكثريته البريئة يتلو فعل التحسّر على قبس ما أن بدا حتى توارى.
ذهب الاقتصاد حثيثاً إلى الانهيار، فأدخلوه في دوامة تشكيل الحكومات حتى أصبح الفراغ حالة كلاسيكية، بدليل ما انبرى أحدهم وقال نحن نستطيع ان نعلّم أميركا كيف تُدار الدول في غياب الحكومات والموازنات ورجاحة العقل وحسن التدبير.
انفجر المرفأ، فانكشفوا جمعياً ووقفوا صاغرين أمام الرئيس الشاب ماكرون وهو يوبّخهم بصورة علنية ويكتب لهم بيان الوزارة الجديدة فما أن أستدار الى بلده حتى استداروا إلى ما كانوا عليه، فثبت لنا أن القالب الفرنسي لا يقوم عوج الأذيال.
انتظر الشعب اللبناني من القضاء اللبناني بإمكانياته الفنية القاصرة، أن يسلّط الأضواء على الخلل البنيوي في الدولة الذي أدى إلى تلك الكارثة، فوجده في خضم التجاذب السياسي، والحركة الشعبية الغاضبة، وتحت مطارق الناصحين والمهددين، والموجهين، فأخذته الحيرة بين سرية التحقيق وعلنية الرغبات، بين الأصول الجزائية، ولا أصول الحالة السياسية، وبات في قراره الأخير يداري الرأس بين مطرقة الغاضبين من هذا القرار، وتهليل المصفّقين -المتسرّع- كيف يكون هناك تحقيق، إذا ارتعدت الفرائص، أمام هول الكارثة وفداحة الخسارة، بل كيف ستظهر الحقيقة إزاء التردد بين مسؤولية رئيس الحكومة الجزائية ومسؤولية رئيس الجمهورية المعنوية، ومسؤولية المنظمومة الفاشلة المتشبثة بالحكم المهتز، والطاقة الخامدة، والعدل المائل والاتصالات الخرساء؟ وانتظار المفجوعين وشكوكهم، وتصفيق المصفقين وعشوائيتهم، بل كيف انزلق الحال بالقضاء إلى أن يفقد صفاءه وحرية قراره وحيدته تحت وطأة الانفلات السياسي والشعبوي.
لا رأس يجوز له أن يحتمي بمنصبه أو بطائفته أو بعصبية حزبية، ولكنني لا أرى فيما يجري، إلا عوداً من حزمة كيد تريد أن تعيد البلاد إلى الانقسام الطائفي، كي يحتمي الفاسدون مجدداً بطوائفهم التي انفضت من حولهم.
بعد أن طال بكتاباتي العزاء، وخصّصت المقالات السابقة للحديث عن الراحلين، قررت أن أنأى بهذه الحلقة عن الحزن خصوصاُ وأن كثيراً منكم لامني على ذلك الاستغراق، ولكنني أجد نفسي مستغرقاً أيضاً وأيضاً بما هو أمرّ من الحزن الخاص، فقد سلخت معظم عمري محامياً، ولكنني الآن أرى الهيكل الذي عشت فيه يتعرض لأذى كبير وخطر داهم، وها أنذا أوجه سطوري الأخيرة إلى من يهمهم الأمر فأقول:
القضاء ليس وسيلة سياسية،
القضاء لا يصلح قناعاً لدولة بوليسية متوّهمة،
القضاة ليسوا قبيلة أو عشيرة أو حزباً أو نادياً أو منبراً،
القضاء المستقل يتجسّد بالدرجة الأولى بالقرار المستقل للقاضي،
القضاء لا يقوم على قضاة معقّمين افتراضيين بل على جوّ عقّمه لهم القانون وحصّنته الحكومة، وصانه الوقار والتحفظ، وإصدار الأحكام في مواعيدها.
القضاء الفعّال لا يمكن له أن ينجز مهمته في ظل بنية تحتية عثملية، فيما التطور والحداثة سمتان لعدالة صحيحة،
القضاء ليس مجموعة قضاة تعمّقوا في دراسة القانون،فالقاضي يحفظ أبياتاً من الشعر ويسمع الموسيقى، ويقرأ الفلسفة، وعلم النفس والتاريخ، وما إلى ذلك من العلوم الانسانية، ليكون متكامل الثقافة، إذ لا عدالة سوية تأتي من ثقافة ناقصة.
أما بعد..
فقد انفلت عيار الحكم، ومازالوا يحدثونك عن وحدة المعايير.
لقد أحالوا الدولة إلى مزبلة وأشاعوا التلوث القانوني بعد تلوث النفايات، ومع ذلك، فهناك من يدمر حياتنا ليكون ديكَ تلك المزبلة،
ألا تباً لصباح ينبثق من صياح ذلك الديك.
أقول هذا في ذكرى ديك "النهار" الفصيح الذي استحق اسمه بنسب جده، وخوضه غمار عواصف جبران خليل جبران حتى احترق تاركاً لغيره البدائع والطرائف.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا