طوني عيسى
باتت الصورة واضحة. سيعيش لبنان شهرين ملتهبين، حتى انتهاء ولاية الرئيس دونالد ترامب في 20 كانون الثاني. تليهما «مرحلة اختبارية» بين إدارة الرئيس جو بايدن وطهران، لا تقلّ مُدّتها عن شهرين، وبعدها يصبح كل شيء وارداً. وحتى ذلك الحين، الجميع يستسلمون للأسوأ، إلّا «حزب الله». فهو بدأ، على الأرض، بناء «منظومة الأمان» الخاصة به، والتي ستجعله في منأى عن موجة العقوبات الجديدة.
شراسةُ الجيل الجديد من العقوبات الأميركية لا تكمن فقط في أنها ستشمل مزيداً من المسؤولين والمرجعيات السياسية، من الصفّ الأول كما يتردَّد، بل خصوصاً في أنها ستدخل إلى عمق المؤسسات، ولا سيما المصرفية والمالية، بدءاً من مصرف لبنان المركزي.
لقد سبق للأميركيين، في العام 2011، أن تَسبّبوا بتصفية البنك اللبناني- الكندي ودَمجه بمصرف «سوسييتيه جنرال»، بعد اتهامه بتبييض أموال لمصلحة «الحزب». ولكنهم طوال السنوات الـ8 التالية تجنّبوا أي إجراء يمسّ بالقطاع المصرفي، على رغم الدعاوى المفتوحة في نيويورك ضد مؤسسات مصرفية من الفئة الأولى، بتهمة تمرير أموال لـ»الحزب». وفي العام الفائت، أجبروا «جمّال تراست بنك» على تصفية نفسه، بإشراف مصرف لبنان، بعد معاقبته بتهمة تبييض الأموال لمصلحة «الحزب».
لكنّ التقارير الواردة أخيراً تثير المخاوف من أن يكون الأميركيون قد قرّروا في هذه المرحلة أن يستهدفوا صُلب القطاع المصرفي، بدءاً من مصرف لبنان، في سياق سَعيهم إلى زيادة منسوب الضغط على لبنان ككلّ، للضغط على «حزب الله».
وهنا، يجدر التعمّق في تقرير «وول ستريت جورنال» الذي قالت فيه إنها اطّلعت على «نُسخ من سجلّات تُثبِت تورّط المركزي مع مؤسسة مصرفية بتحريك حسابات لـ«حزب الله»، خلافاً للتوجيهات الأميركية». فقد طرحت الصحيفة شكوكاً حول تعطيل التدقيق الجنائي، ولوّحت بإلحاق لبنان بنماذج «معادية»، مثل كوريا الشمالية وإيران وفنزويلا.
في ضوء هذه الحملة، لم يعد لبنان قادراً على الاختباء أو الحصول على الحماية من أي قوة دولية. وحتى الفرنسيون، الذين يفضّلون التَمايز عن الأميركيين في النظرة إلى «حزب الله» ويعملون لتجنيب لبنان الانسحاق تحت طاحونة الصراع الأميركي - الإيراني، يشاركون واشنطن رؤيتها في ملف الفساد.
ولذلك، تزامَن تقرير «لوموند» عن التدقيق والفساد ومصرف لبنان «الدولة ضمن الدولة» مع الحملة الأميركية. وثمّة مَن يقول إنّ الزيارة التي قام بها أخيراً حاكم المركزي رياض سلامة لباريس لم تنجح في تغيير الصورة الفرنسية إلى هذا الملف.
والدليل إلى ذلك أنّ الرئيس إيمانويل ماكرون، في مؤتمر الدعم، عبَّر مباشرة عن استيائه من المسؤولين اللبنانيين بسبب عدم وفائهم بوعود الإصلاح. وخلافاً لِما يظنّ البعض، هناك تقارب أميركي- فرنسي في النظرة إلى طاقم السلطة، ويتوقع البعض تنسيقاً في الخطوات العقابية لاحقاً.
في تقدير المطّلعين، ستكون الأسابيع المقبلة قاسية جداً على لبنان، خصوصاً في المسألة المالية والاقتصادية، لأنّ العقوبات الأميركية التي يجري التلويح بها ستأخذ طريقها إلى التنفيذ إذا لم تتجاوب قوى السلطة. وأسلوب المماطلة والمناورة الذي تعتمده، باتَ الأميركيين يعتبرونه استفزازياً، وهو ما قد يدفع لبنان إلى النموذج الفنزويلي.
ولكن، يجدر هنا التوقّف عند منحى آخر من العقوبات. ففي 30 أيلول الفائت تقدَّم رئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن القومي في مجلس النواب الأميركي، النائب جو ويلسون، باقتراح قانون لمكافحة «تبييض الأموال» الذي يقف وراءه «حزب الله»، وهو يحمل عنوان The Hezbollah Money Laundering Prevention Act of 2020.
هذا الاقتراح يُعتبر الأول من نوعه في تكريس اتجاه جديد أو جيل جديد من العقوبات في لبنان، فهو:
- أولاً، يطالب بفرض عقوبات على المؤسسات المصرفية اللبنانية التي لها فروع في المناطق الخاضعة لسيطرة «الحزب». ووفق النص المنشور في موقع الكونغرس الرسمي، هو يُسمّي تحديداً: «محافظة النبطية، إطار بلديات حارة حريك والشياح والحدث في الضاحية الجنوبية، الهرمل وبعلبك وتمنين الفوقا وصور».
- ثانياً، في سياق التصدّي لتمويل «الحزب» أيضاً، يطالب الاقتراح بعقوبات على مسؤولين حكوميين أجانب في فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا وبلدان أميركا اللاتينية عموماً، حيث لـ«الحزب نشاط ويحصل على التمويل».
وفي تقدير الخبراء أنّ تطبيق عقوبات على لبنان، وفق هذا القانون، إذا تمّ إقراره، سيؤدي واقعياً إلى فرز جزء كبير من النشاط الاقتصادي والمالي في مناطق «حزب الله» عن الأنشطة في المناطق اللبنانية، وإلى فكّ ارتباط القطاع المصرفي بـ»الحزب» بنسبة عالية. وبالطبع، يخشى «حزب الله» خطوات من هذا النوع لأنها قد تخلق وقائع تقسيمية.
ولكن، في المقابل، ليس في وسع «الحزب» أن يتخلّى عن أوراق قوته في داخل المؤسسات ومصادر تمويله، ولو تحت الضغط. وفي الشهرين المقبلين ستكون المواجهة مفتوحة بينه وبين الأميركيين، مع المراهنة على تلطيفٍ في المناخ مع تسلّم بايدن مقاليد الحكم.
وفي الانتظار، يجهِّز «الحزب» نفسه ومناصريه، ليتعايَش خارج القطاع المصرفي المُستهدف. وأساساً، كان الأمين العام لـ»الحزب» السيد حسن نصرالله قد أكد، ردّاً على العقوبات، أنّ «أموالنا ليست في المصارف».
يريد «حزب الله» أن يُظهِر للأميركيين أنّ أمواله بالعملة الصعبة موجودة معه أساساً، وتالياً أنّ الضغط على القطاع المصرفي سيؤذي البلد ولن يؤذيه كحزب، ولن يُضعف مخزوناته المالية التي يحصل عليها من إيران.
وتأكيداً، هو باشَر خطوات تهدف إلى تدعيم مناطقه مالياً واقتصادياً، ومنها مثلاً تركيب سلسلة نقاط ATM تابعة لمؤسسة «القرض الحسن»، وهي قادرة على منح القروض بالدولار أيضاً. ومنها أيضاً تعميم تعاونيّاته الاستهلاكية بهدف توفير السلَع بأفضل الأسعار. وهكذا، فالتفكير بعقوبات تدخل إلى عمق مناطق «الحزب»، هو يردّ عليها، بكل قوته، وفي داخل بيتِه حصراً.
إذاً، المعركة المحتدمة بين إيران والولايات المتحدة تُخاض في لبنان على حدّ السيف، و»حزب الله» يقلق جدّاً، وأكثر من أي يوم مضى. فالمسألة تتعلق بوجوده. ولكن، هل تنتهي المعركة قبل أن يقع السيف على عنق البلد؟