جوني منير
أكثر من شهرين هي المدة الفاصلة مبدئياً قبل رحيل دونالد ترامب عن البيت الابيض، وهي مدة كافية يستطيع خلالها الرئيس الاميركي المثير للجدل ان يتخذ خلالها كثيراً من القرارات القاسية، والتي تهدف الى زرع العراقيل امام برنامج الرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن.
لذلك، ثمة قلق مبرر، خصوصاً لدى بعض الدول والاطراف في الشرق الاوسط، وتحديداً ايران والقوى المتحالفة معها، حيال ما يمكن ان يذهب اليه ترامب. وما يعزز من نياته، هي النتائج الانتخابية التي حققها، حيث جاءت متقاربة من جهة وقياسية من جهة أُخرى، وهو ما يعني انّ الشارع الاميركي منقسم بنحو حاد، أضف الى ذلك انّ المجموعة التي اقترعت لمصلحة المرشح عن الحزب الجمهوري ترتكز على الذين يعتبرون انفسهم اولياء الولايات المتحدة الاميركية واصحاب الانتماء الصافي للهوية الاميركية وابناء عقيدة «أميركا اولاً».
وهو ما يضع اساساً عقبة داخلية كبيرة امام الادارة الديموقراطية المزمع تشكيلها، ما سيجعل مشروعها السياسي، والقاضي بأن يشكّل نقطة تحوّل كبرى، مسألة في غاية الصعوبة. وبالتالي، فمن المنطقي الاعتقاد أنّ بايدن لن يستطيع غضّ النظر عن التغييرات والتبدلات التي احدثتها ادارة ترامب، خصوصاً في اتجاه ايران، اي ان يعود بايدن الى الصيغة القديمة للاتفاق النووي من دون ادخال تعديلات عليها. وبالتالي، فمن المرجح ان يواصل بايدن النهج الحالي لإدارة ترامب باستخدام سياسة العقوبات، خصوصاً في اتجاه حلفاء ايران، ولو بإسلوب اقل حدّة وبوتيرة اقل كثافة.
لذلك، تردد انّ بايدن الذي يعمل على اعادة توحيد الاميركيين والتخفيف من حدّة الانقسام الحاصل، سيعمل على تلوين التعيينات المقبلة في ادارته بشخصيات من الحزب الجمهوري، تماماً كما حصل سابقاً مع ادارتي كلينتون واوباما، اللتين عيّنتا جمهوريين وزراء، وجورج دبليو بوش الذي اتى بوزير ديموقراطي، يوم كان الانقسام الداخلي حيال الحرب مع العراق.
ويعتقد فريق بايدن أنّ تنوع الايديولوجيات والانتماءات السياسية يعطي الانتقال الى المرحلة الجديدة طريقاً اكثر اماناً واقل توتراً.
لكن ثمة خطوات ظهرت ورفعت منسوب القلق، فإقالة وزير الدفاع الاميركي، والذي كان على خلاف مع الرئيس الاميركي، تلتها ثلاث استقالات مهمّة داخل وزارة الدفاع. فبعد اقل من 24 ساعة على مغادرة مارك اسبر مكتبه في الوزارة، اعلن ثلاثة من المسؤولين الكبار فيها استقالتهم. ويتولّى هؤلاء مهمات، رئاسة القسم السياسي ومسؤول المخابرات ورئيس اركان وزير الدفاع. واعتبرت ادارة ترامب انّ هذه الاستقالات سارية المفعول فوراً. وما زاد من عامل القلق حول ما اذا كان هنالك من خلفية ما يجري التحضير له، هو احتمال تعيين الجنرال المتقاعد انطوني تاتا في احد هذه المواقع. وتاتا الذي يعمل معلّقاً عسكرياً في محطة «فوكس نيوز»، اشتهر بتشدّده وأفكاره المعادية للأنظمة الاسلامية بما فيها ايران. ومعه برز سؤال عمّا اذا كان ترامب المشهود له بتهوره في اتخاذ قراراته خصوصاً تجاه ايران، يحضّر لخطوة ما تهدف الى قطع الطريق كلياً امام الرؤية السياسية لبايدن في الشرق الاوسط.
صحيح انّ المسؤولين العسكريين الكبار يرفضون اي خطوة متهورة في الشرق الاوسط، لكن الاستقالات المتلاحقة تجعل الساحة مفتوحة امام جموح ترامب وتسلّح ادارته بأنّ الواقع الايراني رفع من مستوى التحدّي الصيني وزاد من جرأة الصين للتمدّد في الشرق الاوسط، وهي المنطقة المعروفة تاريخياً بأنّها ساحة نفوذ اميركية.
وفي الواقع، إنّ الارقام التي كان سجّلها استطلاع اعدّه معهد واشنطن في شهر حزيران الماضي اظهرت نمو التأييد الشعبي للصين في دول الشرق الاوسط. ففي الخليج مثلاً اعتبر 49% انّ العلاقات الجيدة مع الصين هي مهمة بالنسبة اليهم، في مقابل 38% لمصلحة العلاقة مع الولايات المتحدة الاميركية. وجاءت العلاقة مع روسيا في المرتبة الثالثة وخلفها العلاقة مع تركيا، والتي تأتي في الترتيب العالمي من حيث قوة جيشها، في الموقع 11 من موازنة للدفاع تبلغ 19 مليار دولار اميركي.
وهذه الصورة الدقيقة في المنطقة معني بها لبنان بشكل مباشر، خصوصاً اذا اضفنا اليها الحصار الذي بدأ يعيشه رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو صديق ترامب، والذي يتجّه على ما يبدو الى انتخابات رابعة قد تفقده هذه المرة العودة الى رئاسة الحكومة، لا بل واحتمال الدخول الى السجن. وهو ما يفتح باب المخاطر امام الساحتين اللبنانية والسورية.
ففي لبنان مخاطر داخلية كبيرة وصعبة، ابرزها على الاطلاق حال الانهيار الاقتصادي والمالي، والمرشح لأن يصبح انهياراً كاملاً مع التراجع الخطير لاحتياط مصرف لبنان للعملات الصعبة. وما يسرّع من هذا الوضع عدم وجود حكومة قادرة على التعامل مع التحدّيات المطروحة. فعلى المستوى المعنوي، فإنّ النزاع الدائر بين القوى السياسية حول المحاصصة واقتناص الحقائب بعيداً من اي مسؤولية وطنية، يضاعف من حال اليأس والاحباط لدى اللبنانيين ويزيد من سرعة استنزاف ما تبقّى من مكونات اقتصاد البلد.
اضف الى ذلك، فرض عقوبات جديدة ستزيد من التعقيدات السياسية الداخلية. ورغم النكسة التي تلقّاها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون مع سقوط المبادرة الفرنسية، تبدو باريس القلقة من زوال لبنان، عاجزة عن عقد مؤتمر الدعم للبنان، والذي تمّ ارجاؤه الى نهاية الشهر الحالي، في ظلّ عدم وجود حكومة لبنانية، وبالتالي عدم اقرار اصلاحات اقتصادية ملحّة. اضف الى ذلك تراجع عدد من الدول، وخصوصاً الخليجية منها، عن رغبتها في مدّ يد المساعدة المالية الى لبنان.
وهذا ما يفسّر غياب ثلاثة سفراء خليجيين عن بيروت، ولو لأعذار مختلفة. وبالنسبة الى مراقبين اوروبيين، فإنّ الاستقرار في لبنان بات مهدّداً في ظلّ الانهيار الاقتصادي والمالي. ويعتقد هؤلاء انّه اذا كان صحيحاً أنّ بعض الاطراف يريد بقاء الفراغ على المستوى الحكومي لاعتقاده انّه بذلك يمسك بورقة تعطيه موقعاً متقدماً للتفاوض عليه لاحقاً بغية تحقيق نقاط بنيوية في الداخل، فهو يخطئ في قراره.
وكذلك، اذا كان هنالك فريق آخر يقارب الوضع من زاوية المصلحة الشخصية البحتة، وبالتالي امكانية فرض واقع صعب يسمح له بتعزيز حظوظه المستقبلية، فهو جاهل واناني. فالظروف التي باتت تظلّل لبنان هي في غاية الدقّة، والساحة اللبنانية تبقى تفصيلاً امام نزاع القوى الاقليمية. وهو ما حصل مراراً في السابق ودفع ثمنه الفريق نفسه. ذلك انّ الامور يمكن ان تنزلق سريعاً في اتجاه اضطرابات، لأنّ الفراغ السياسي والامني يمكن ان تستغله جهات خطيرة مثل «داعش» الذي اطل برأسه منذ فترة ليست ببعيدة.
وفي لبنان ايضاً استنزاف خطير للكفايات التي فقدت املها في أي مستقبل في بلدها، ما ادّى الى هجرة واسعة للعقول خصوصاً على الساحة المسيحية. ما سيجعل التعافي لاحقاً صعباً جداً، وتعويض هذه الكفايات غير قابل للتحقق. مع الاشارة الى انّ المسيحيين تحديداً، كانوا اكثر الخاسرين اقتصادياً ومالياً، وهي اوراق القوة الاخيرة التي كانوا يمسكون بها.
وتختم هذه الاوساط بالقول، إنّه حتى ولو ادار الرئيس الاميركي المنتخب محركاته في اتجاه المنطقة، وهو غير متوقع قبل الصيف المقبل، الّا أن لبنان ليس أولوية في مشروع التسويات، «فهل تستطيعون الانتظار»؟