حبيب معلوف
إذا ما ثبتت العلاقة بين ارتفاع نسب التلوّث في الهواء وسرعة انتشار وباء «كورونا»، كما تؤكد دراسات علمية، فهذا يعني أن كل إجراءات الإقفال والتباعد غير ذات جدوى، وأن على الكمّامات أن تصبح مرافقاً لنا حتى في غرف النوم
بعد مرور أكثر من عام على انتشار وباء «كورونا»، تتكشّف للباحثين حول العالم، يوماً بعد آخر، العلاقة «الوثيقة» - والخطيرة تالياً - بين الفيروس وتلوّث الهواء. و«النقطة المركزية» لالتقائهما، في الغالب الأعم، هي الرئتان. فكلاهما، الفيروس والتلوّث، يتسبّبان بالمشاكل الصحية القاتلة نفسها وفي المكان نفسه تقريباً. علماً أنه منذ ما قبل «ولادة» الفيروس بوقت طويل، لطالما أكّد المتخصصون في الأمراض الصدرية على حقيقة أن تلوث الهواء يجعل الإنفلونزا وغيره من أمراض الرئة أكثر حدّة وخطورة.
ولعل التفسير الأقرب إلى المنطق لسرعة انتشار الفيروس هو انتقاله بواسطة الهواء الملوّث. هذا ما تؤشّر إليه حقيقة أن الأماكن التي تشهد انتشاراً أكبر لـ«كورونا» هي المناطق الأكثر تلوّثاً. وهذا، أيضاً، ما تؤكّده دراسة جديدة أجرتها جامعة هارفارد الأميركية العريقة، وشملت 3080 مقاطعة في الولايات المتحدة. إذ بيّنت أن زيادة مستوى الجسيمات الدقيقة العالقة في الهواء تزيد من خطر الوفاة بين مصابي «كورونا» بنسبة 11%. الدراسة التي نُشرت أخيراً في دورية «ساينس أدفانسيس» العلمية، قارنت بين بيانات الوفيات بالفيروس على مستوى كل مقاطعة وبين تركيزات مستوى الجسيمات الدقيقة العالقة يومياً في هواء هذه المقاطعات بين عامَي 2000 و2006، وخلصت إلى أن الزيادة الطفيفة في التلوث (ميكروغرام واحد فقط لكل متر مكعب)، كانت مرتبطة بزيادة قدرها 11% في معدل الوفيات بالفيروس. ولعل هذا ما يفسّر أن النسبة الأكبر من النتائج الإيجابية للفحوص في لبنان كانت في المدن والمناطق ذات الكثافة السكانية الأكبر، والتي تُعدّ نسب تلوث الهواء فيها الأعلى على مستوى الأراضي اللبنانية.
ولا تتوقف الدراسات عند خطورة الأماكن الأكثر تلوّثاً في هوائها، بل تذهب أبعد من ذلك. فالتلوث يهاجم الجهاز التنفسي في الأساس. إلا أن التعرض المستمر للملوثات يسبب التهاباً مزمناً للشعب الهوائية والرئتين، ما يضعف من قدرتها على مقاومة أي فيروس. أكثر من ذلك، فإن الفيروس يكتسب قدرة أكبر على الانتشار مع وجود الجسيمات الدقيقة العالقة في الهواء الملوث. إذ يمكن للرذاذ الحامل للفيروس البقاء في الهواء لفترة أطول والانتشار لمسافات أبعد، عندما يعلق بتلك الجسيمات.
لا يمكن لأحد الجزم، حتى الآن، بماهية العلاقة بين مشاكل التلوث التقليدية والأوبئة، لا لناحية بدايتها ولا حدّتها ولا نهايتها. ولم يجزم أي من الخبراء، بعد، بأن لتلوث الهواء تأثيراً بحد ذاته في «ولادة» الأوبئة وانتشارها أو نهايتها. لكن يمكن الجزم، بعد هذه الدراسات، وقبلها أيضاً، بأن تخفيف نسب تلوث الهواء عبر تبنّي سياسات جديدة تقوم على توفير الطاقة والاعتماد على الطاقة المتجدّدة ووسائل النقل الصديقة للبيئة، كل ذلك يقلّل من تلوّث الهواء ويخفّض من نسب الوفيات، سواء كان سببُها الهواءَ أو الوباءَ أو كليهما معاً.
أثناء عمليات الإغلاق التي حصلت في مدن العالم هذا العام لمواجهة انتشار الوباء، سُجّل انخفاض كبير لنسب الجسيمات الدقيقة العالقة في الهواء، قبل أن تعود إلى معدّلاتها «العادية» بعد انتهاء الإقفال. دفع ذلك كثيراً من المتحمسين البيئيين حول العالم للتأكيد بأن ما يجب فعله لإنقاذ المناخ، هو العيش بطريقة مشابهة لما عشناه أثناء الحجر المنزلي بسبب الوباء! قد يكون ذلك طوباوياً. إلا أنه ليس بعيداً عن الواقعية، فقد آن الأوان للتفكير فعلياً في إعادة النظر بسياسات النقل والطاقة الأكثر إنتاجاً لتلوث الهواء والأمراض والأوبئة.
أما المسألة القديمة - الجديدة والتي عادت لتُطرح بقوة أخيراً حول تحوّل الفيروس وتحوّره، واتخاذه أشكالاً جديدة ومموّهة، فأمر يدعو إلى التشكيك في كفاية اللقاحات التي اقترب الإعلان عنها. وما يزيد من هذه الشكوك، عودة الحديث أيضاً عن علاقة هذا الوباء بالأنواع البرية، ولا سيما الحيوانية منها، وتحوّره بعد انتقاله إليها وعودته إلى الإنسان.
انطلاقاً من ذلك، فإن مواجهة هذا الوباء، وغيره من الأوبئة المحتملة، لا يحتاج فقط إلى لقاحات وسياسات صحية مختلفة، وإنما التفكير جدياً في تغيير النموذج الحضاري الذي نعرفه، ولا سيما لناحية إعادة صياغة علاقتنا مع الطبيعة، ولناحية التربية الحيوانية التجارية في المزارع لإنتاج اللحوم ومشتقاتها، وأيضاً لجهة التوسّع العمراني والاستخراج بجميع أنواعه وأشكاله. ناهيك بضرورة إعادة النظر باتفاقيات دولية محورية مثل حماية التنوع البيولوجي (التشدد أكثر في طرق التصنيف والحماية) واتفاقية تغير المناخ والالتزام بالتخفيف من الانبعاثات والتكيّف مع التغيرات والكوارث التي تنجم عنها. مسألة حماية البيئة، وخفض تلوث الهواء تحديداً، يفترض أن تصبح جزءاً لا يتجزّأ من الإجراءات المطلوبة للمعالجة ومكافحة الأوبئة. انتقال الفيروسات الوبائية مع جسيمات الهواء الملوث إلى أماكن بعيدة ليس تفصيلاً عابراً. إذ أنه يقوّض فكرة التباعد الأساسية اليوم في مواجهة الوباء، ويعني أن على الكمامات أن ترافقنا حتى في نومنا. أما انتقال الأوبئة العابرة للنوع الإنساني وإمكانية تحوير وتحويل الفيروسات لمساراتها وأشكالها، فأمر يدعو أيضاً إلى الهلع الدائم... لا الوقاية الدائمة فقط.