رضا صوايا
تبجُّح اللبنانيين بمواكبتهم لآخر صيحات الأزياء يكاد يصبح ذكرى من «الزمن الجميل». كثيرون، اليوم، باتوا يريدون «السترة»، ويبحثون عمّا يسترون به أجسادهم بأقلّ كلفة ممكنة. الثياب أصبحت من «الكماليات»، ومتاجر الألبسة أُقفلت بالمئات، فيما ما بقي منها صامداً «يصفّر»، ويشتغل على «القطعة». كلّ ذلك أعاد إحياء الخياطة ونفح الروح في مهنة كانت قد شارفت على الانقراض
«التقصير» و«التضييق» لم يعودا يُستخدمان لوصف طريقة مثيرة في اللبس، بقدر ما أصبحا من الطلبات التي تتكرّر على مسامع الخياطين ممن يقصدونهم لـ«تزبيط» ما يمكن «تزبيطه» من ثيابهم القديمة. عاد «التألق» إلى الإبرة والمقصّ و«المازورة» و«الكشتبان». ومهنة الخياطة التي كانت على وشك الانقراض دبّت الروح فيها مجدداً، وهي التي عرفت في لبنان أمجاداً في ما مضى، إذ يُروى أن خان الخياطين في طرابلس كان يضم أكثر من 4 آلاف عامل في حياكة النسيج عندما سقطت المدينة في أيدي الصليبيين. وقد لمع اسم عاصمة الشمال في هذا المجال، إلى حد إرسال الأمراء الأوروبيين بعثات خاصة لشراء المنسوجات الحريرية التي كانت تحاك في خانها. وفي التاريخ الحديث، منذ الخمسينيات، كانت للخياطين مكانة خاصة لدى الطبقات الراقية والميسورين ومحبي الموضة ممن كانوا يقصدون هؤلاء لتفصيل الأطقم والفساتين، حتى أصبح التعامل مع خياطين معيّنين موضع فخر لزبائنهم، وكان بعضهم حديث الصالونات. بقي الأمر كذلك إلى ما بعد الثمانينيات عندما تحوّل الزبائن الى الألبسة الجاهزة المستوردة بغالبيتها، وبدأت المهنة بالتلاشي شيئاً فشيئاً، إذ أقفلت غالبية محالّ الخياطة، وتحوّل كثير من الخياطين إلى موظفين لدى محالّ الألبسة وانحصر عملهم بإدخال تعديلات على ما يشتريه الزبائن، تقصيراً وتضييقاً. فيما اختفت بشكل شبه كلّي محالّ «الكلفة» التي كانت تبيع لوازم الخياطة من سحّابات وأزرار وخيطان وغيرها من الإكسسوارات.
«عودة الروح» إلى المهنة بفعل الظروف الاقتصادية الصعبة لا تعني استعادتها أمجادها الغابرة. «عندما كانت الليرة تحكي كنا نقبض عالطقم مئات الليرات. اليوم بيحارجنا الزبون على العشرة آلاف ليرة لتقصير البنطلون»، يقول «أبو علي» الذي كان موظفاً في أحد محال الثياب الكبرى في منطقة فردان قبل أن يقفل الأخير أبوابه. «أبو علي» استمر في العمل «منفرداً»، مع «الازدهار» الجزئي للمهنة، لكنه لا يعوّل كثيراً على «زبائن آخر زمن الذين يأتي بعضهم بجوارب ممزّقة ويطلب تقطيبها على البيعة»، ناهيك بمن يأتون بحقائب مدرسية قديمة لإصلاحها بعد ارتفاع أسعار القرطاسية. «أحدهم أتى ببنطلون جينز مهترئ طالباً تضييقه، وعندما أخبرته بأن القصة مش محرزة طلب مني أن أقصّ له منه كمّامات... الله يعين العالم»، يقول وهو منكبّ على كي قميص انتهى للتوّ من تضييقه.
في بيت مري التي تسكنها طبقة متوسطة إلى ميسورة من السكان، يؤكد عادل أن كثيرين باتوا يقصدونه لتعديل ملابسهم القديمة توسيعاً وتضييقاً وتقصيراً. «الإقبال لافت جداً مقارنةً بالسنوات الماضية. لكن الزبائن يستكثرون دفع 5 آلاف أو 10 آلاف ليرة وغالباً ما يبارزون لخفض الكلفة».
بعض الزبائن يأتي بجوارب ممزّقة ويطلب تقطيبها على البيعة!
غالبية طلبات الزبائن بحسب مروان، أحد الخياطين في عمشيت، تنحصر «بالتزبيطات البسيطة وما من أحد يفصّل الثياب نظراً إلى ارتفاع كلفتها. معظم الزبائن يأتون بالثياب بالقطعة، ورغم ارتفاع كلفة اللوازم علينا بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار ، يتذمّر الزبائن من دفع سبعة آلاف ليرة أجرة تقصير البنطلون». ويلفت إلى ارتفاع الإقبال عليه في موسم الأعراس الماضي: «كثيرات أتين بفساتين قديمة وطلبن إدخال تعديلات وإضافات عليها حتى لا يُعرف أن الفستان ملبوس سابقاً»!
الإقبال المتزايد على الخياطين يتزامن مع تراجع حادّ في قطاع تجارة الألبسة بالتجزئة، وإقفال مئات المحال أبوابها منذ مطلع العام الجاري، وما رافقه من خروج كثير من العلامات التجارية من السوق بعد تردي القدرة الشرائية للبنانيين وارتفاع أسعار الملابس المستوردة. تشير ليزا هاواريان، وهي صاحبة متجر ألبسة رجالية في برج حمود، إلى أن «عدداً كبيراً جداً من المحال في المنطقة أقفل أبوابه. وبعدما كان التجار يتقاتلون على محل في شارع أراكس، هناك اليوم محالّ كثيرة شاغرة رغم تدني الإيجارات بشكل كبير». وتلفت إلى أن «كثيرين من أصدقائي وزبائني باتوا يعطونني ملابسهم القديمة لأوصلها إلى خياطين أتعامل معهم لإدخال تعديلات عليها. وهذه الظاهرة تكاثرت بشكل كبير أخيراً». أما في المحل، «فالملابس المصنّعة محلياً باتت تشهد طلباً متزايداً مقارنةً بالبضاعة الصينية والتركية التي غزت السوق في السنوات الماضية».
الأزمة اضطرت تونيا حريق، صاحبة متجر ألبسة نسائية في برمانا، إلى إغلاق أحد متجرَيها في المنطقة مع تراجع الأعمال قبل 6 أشهر. «كنت أسافر كل شهر إلى الخارج لشراء بضاعة بكميات كبيرة، أما الآن فأكتفي بعدد محدود. بعض زبوناتي اللواتي كنّ يشترين 6 إلى 7 قطع عند كل زيارة أصبحن يكتفين بقطعة واحدة. ومن كانت تشتري من دون أن تعير الثمن أهمية أصبحت تدقّق مسبقاً في الأسعار، وهذا الواقع أصبح أمراً شائعاً في لبنان بسبب الظروف، اللافت أن الغالبية العظمى من زبائني من الميسورين والمرتاحين مادياً، ما يُظهر مدى تأثر كل الفئات بالأزمة».