طارق ترشيشي
الزمن الذي ساد أيام تكليف الدكتور مصطفى أديب وتأليفه يُعيد نفسه الآن، مع فارق انّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يحضّر بتؤدة للدعوة الى استشارات التكليف وربما للتأليف أيضاً، وانّ رؤساء الحكومات السابقين يستعدون هذه المرة لتسمية جديدة ربما تكون من نصيب أحدهم لاعتقادهم أنّ الواقع والشارع سيتقبّله، لأنّ تجربة الإتيان برئيس للحكومة من خارج ناديهم لم تكن موفّقة في رأيهم، على رغم من أنّ البعض يتهمهم بأنهم ساهموا في سقوط حكومة حسان دياب عندما لم يؤيّدوها وأداروا ظهورهم لرئيسها، ثم ساهموا في اعتذار أديب نتيجة ما ألزَموه من شروط في التأليف، فاصطدم بالآخرين وتوقفت عجلاته واعتذر...
على رغم كل ما كشفه الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله من تفاصيل ووقائع رافقت ايام تكليف أديب وتأليفه، يبدو انّ المعنيين المباشرين وغير المباشرين بالاستحقاق الحكومي لن يبدّلوا طريقتهم في مقاربة هذا الاستحقاق خلافاً للاصول الدستورية. فهناك حديث في مختلف الاوساط عن انّ هؤلاء المعنيين يريدون هذه المرة الاتفاق على تفاصيل التفاصيل تكليفاً وتأليفاً، لتكون الحكومة «جاهزة بالتمام والكمال» ليأتي الاخراج الدستوري سريعاً شَكلياً، بحيث يتم التكليف ومن ثم التأليف خلال ايام من دون حاجة الى أي جهد استثنائي.
وما يجري حالياً هو محاولة للتوصّل الى «اتفاق إطار» يُفضي الى سيناريو من هذا النوع، على رغم الانطباع الذي بدأ يترسّخ هنا وهناك، وربما هنالك، من أنّ الاستحقاق الحكومي رُحِّل الى ما بعد استحقاق انتخابات الرئاسة الاميركية المقرّر في 3 تشرين الثاني المقبل.
لكنّ بعض السياسيين يعتقدون انّ الوضع ليس مساعداً لإنجاز اتفاق مُسبق من هذا النوع، خصوصاً اذا حاول البعض الاستمرار في العمل لخَلق أعراف جديدة في ما يتعلق بالتكليف ومن ثمّ في التأليف، مثلما حصل مع أديب وانتهى باعتذاره. فالمطلوب العودة الى الكتاب، أي الى الدستور الذي يحدد صلاحية رئيس الجمهورية في التكليف والتأليف في الفقرة الثانية من المادة 53، التي تقول: «يسمّي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية مُلزمة يُطلعه رسمياً على نتائجها». وكذلك في الفقرة الرابعة من المادة 53، التي تقول: «يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم». أما صلاحية الرئيس المكلّف فتحددها المادة 64 في الفقرة الثانية منها، التي تقول: «يُجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة، ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها. وعلى الحكومة أن تتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً، من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها. ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلّا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال».
امّا المادة 95 فتنصّ في البند «أ» من»المرحلة الانتقالية» التي تسبق إلغاء الطائفية على الآتي: «تمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة».
ويرى هؤلاء السياسيون، وبعضهم شاركَ في طبخة تكليف أديب التي فشلت، انه بعد كلام نصرالله يفترض ان يذهب الجميع الى إنجاز الاستحقاق الحكومي وفق هذه الاصول والمعايير الدستورية، بحيث يُخاض التكليف ديموقراطياً، حتى ولو ترشّح لرئاسة الحكومة مرشّح واحد او مجموعة مرشحين، فيفوز من نال اكثرية الاصوات النيابية، ليأتي دور التأليف وايضاً بالطريقة نفسها بحيث يُراعى فيه (في انتظار إلغاء الطائفية المؤجّل بفِعل فاعلين معلومين ومجهولين) التمثيل العادل لكل الطوائف والكتل النيابية والسياسية، فلا يحتكر فريق بعينه تسمية رئيس الحكومة ولا تسمية الوزراء ولا توزيع الحقائب الوزارية. وفي انتظار إلغاء الطائفية، فإنّ للطوائف الحق من دون سواها في اختيار ممثليها في مجلس الوزراء الذي جعله «الطائف» سلطة تنفيذية يُشارك فيها الجميع.
ويشير السياسيون انفسهم الى انّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قارَبَ هذا الامر في مؤتمره الصحافي الاخير، عندما قال انّ الوزراء لا ينبغي ان يكونوا مؤتَمرين لطوائفهم. ولكنه أخطأ القول في ذلك لأنّ هؤلاء يمثّلون هذه الطوائف، وكان عليه ان يقول انّ عليهم ان يمارسوا مسؤولياتهم وطنياً لا طائفياً، في اعتبار انّ الوزارات هي مؤسسات لخدمة الشعب اللبناني كله وليس لخدمة طائفة او طوائف محددة.
ويرى السياسيون إيّاهم أنّ الخطأ الذي وقع فيه الرؤساء السابقون للحكومات هو أنهم بادروا الى تسمية رئيس الحكومة المكلف، فهذا الامر ليس حقاً حصرياً لهم ولا لغيرهم، لأنّ ترشيح أي شخص لرئاسة الحكومة يمكن ان يتم على أساس تحالف كتل نيابية وسياسية يؤمّن له تأييد الاكثرية النيابية في الاستشارات الملزمة وغير المبنية على تفاهمات مسبقة خارج الاطار النيابي تصادر الارادة النيابية التي يفترض انها تعبّر عن الارادة الشعبية في تأييد هذا المرشح او ذاك. ومثلما أخطأ هؤلاء الرؤساء في إلغاء ارادات اخرى ضمن بيئتهم وخارجها، أخطأ آخرون في تحديد معايير اختيار اسماء الوزراء وفي اعتماد المداورة في توزيع الحقائب، علماً أن الدستور الذي لا يحدد او يخصّص وزارة معينة لهذه الطائفة او تلك، نَصّ في المقابل على المداورة في وظائف الفئة الاولى فقط وليس في الوزارات التي توزّع عُرفاً على الطوائف في غالبية الحكومات التي تألفت بعد اتفاق الطائف. ومن هنا، كان العرف بإسناد وزارة المال للطائفة الشيعية لسنوات بعد هذا الإتفاق، ليتحوّل عرفاً لسنوات أخرى لمصلحة الطائفة السنية تخللها «اختراق» مسيحي في حكومة الرئيس سليم الحص التي كانت الاولى في عهد الرئيس اميل لحود وكذلك في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة واحدى حكومات الحريري، علماً انّ جميع الطوائف لديها نصيبها من الاعراف الثابتة في توزيع الحقائب الوزارية ولم تكن يوماً حكراً على طائفة واحدة.
وفي هذا السياق يشير هؤلاء السياسيون الى انه حتى على مستوى وظائف الفئة الاول فإنّ المداورة لم تحصل بالتمام والكمال وفق الدستور، فهناك وظائف تتولّاها طوائف منذ الاستقلال وحتى اليوم لم تشملها المداورة يوماً حتى بعد «الطائف»، وبعضها تفوق وزارات بأهميتها على مستوى السلطة في كل المجالات.
لذلك، يرى متابعون انّ ما يجري الآن تحضيراً لجولة التكليف والتأليف الجديدة سيلقى الفشل مجدداً في حال لم يغيّر البعض أسلوب تعاطيه معه، سواء على مستوى تسمية الرئيس المكلف او على مستوى تأليف الحكومة حجماً وحقائب وزارية واختيار اسماء وزرائها، فإذا استمر هذا الاسلوب سيكون تعبيراً عن احد أمرين: إمّا انّ بعض الارادات الخارجية والداخلية المعطوفة عليها ما زال يرى في المرحلة الراهنة انها غير قادرة على فرض تأليف حكومة تكون له اليد الطولى فيها، وإمّا أنّ هناك ارادات داخلية وخارجية ايضاً تحبّذ التريّث في انجاز هذا الاستحقاق انتظاراً لعبور استحقاقات دولية كبرى، في مقدمها الاستحقاق الرئاسي الاميركي.