ماذا يحصل في ملف ترسيم الحدود بين لبنان و"فلسطين المحتلة"؟ ما الذي خفِي خلفَ كلام رئيس مجلس النواب نبيه برّي مطلَع شهر آب الماضي عن أن «الأمور وصلَت إلى خواتيمها"؟ هل شمَل ذلك طريقة التفاوض وآلية الترسيم والأسس؟ لماذا حمَلت تصريحات مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شينكر عن الملف بين سطورها التناقض، فتارة يُعلِن عن "تقدّم تدريجي" وتارة أخرى يتحدث عن "نقاط خلاف سخيفة"؟ لماذا تزامَن إحياء الملف مع فرض عقوبات على شخصيات حليفة للمقاومة، وتحديداً المعاون السياسي لرئيس حركة أمل، النائب علي حسن خليل، كإشارة إلى رغبة أميركية في حصد المزيد من التنازلات في هذا الملف تحقيقاً للمصلحة الأميركية؟
قبلَ حوالى عام كانت كل المؤشرات تشي باحتضار ملف الترسيم أو وضعه على الرفّ، خاصة أن شينكر، وبخلاف ما كانَ متوقعاً، لم يستكمِل ما بدأه سلفه ديفيد ساترفيلد الذي انتقل الى تركيا سفيراً لبلاده. ثمّ أعاد الأميركيون جسّ النبض عبر شخصيات قريبة من "العهد" أو مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والوزير السابق جبران باسيل، إذ فاتحتهما السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيّا بالأمر في أكثر من لقاء، مع وعود بأن "حلّ الملف سيخفف الضغط عن لبنان، وسيكون جزءاً من حل مشكلات لبنان المالية والاقتصادية". ثم جاء تصريح الرئيس برّي لصحيفة "النهار" الشهر الفائت، والذي أكّد فيه أن "المحادثات مع الأميركيين أصبحت في خواتيمها، وأن هذا ما سيُترجم على أرض الواقع بين لبنان والجهات الأميركية المعنية وتتبلور هذه الحصيلة في أول لقاء للطرفين". فتح تصريح بري الباب واسعاً للأسئلة التي لم تجِد حتى الآن جواباً واحداً أو واضحاً بسبب تكتّم المعنيين على التفاصيل.
تتقاطع المعلومات حتى الآن حول بديهية وحيدة، ألا وهي أن ما يُسمى اليوم اتفاقاً هو محصور بالإطار الذي وضعه لبنان كقاعدة لانطلاق التفاوض، أي آلية التفاوض؛ وهي أن يتمّ الترسيم برعاية الأمم المتحدة باعتبارها الجهة الدولية الضامنة للتفاوض بين الدول، على أن يرعى الجانب الأميركي العملية، إضافة إلى التلازم بينَ الحدود البرّية وتلك البحرية، وتحديد فترة زمنية. وتؤكّد مصادر مطلعة على الملف أن "الاتفاق حصل مع الجانب الأميركي الوسيط، ولا يعني ذلك أن "إسرائيل" قبلت به، ونحن في انتظار ما سيحمله شينكر الذي وعدَ بالعودة خلال أسبوعين لاستكمال الاتفاق"، وأن كلامه هذا يدل على أن "الملف متابَع من قبل إدارته وليسَ مهملاً".
غيرَ أن السؤال الأهم بالنسبة إلى المصادر، هو تزامن العقوبات التي فرضها مكتب مراقبة الأصول في وزارة الخزانة الأميركية على وزيرين لبنانيين سابقين، أحدها خليل، في رسالة واضحة إلى رئيس المجلس. كأن المقصود بها الضغط لتحصيل المزيد من التنازلات؛ إذ يُفهَم من البيان الذي أصدره المكتب السياسي لحركة أمل رداً على العقوبات وكأنها التقطت إشارة في هذا الصدد، فركزت في بيانها على موضوع الترسيم، مُؤكدة في النقطة الثانية منه أن "حدودنا وحقوقنا السيادية في البحر والبر نريدها كاملة ولن نتنازل أو نساوم عليها مهما بلغت العقوبات والضغوطات ومن أي جهة أتت. وكشفاً للحقيقة، فإن اتفاق السير بترسيم الحدود البحرية في الجنوب اللبناني اكتمل مع الولايات المتحدة الاميركية ووافقت عليه بتاريخ 9/7/2020، وحتى الآن ترفض توقيت إعلانه دون أي مبرر".
وربطت المصادر هذه الإشارة في البيان إلى "وجود ضغوط أو محاولة أميركية للالتفاف على الاتفاق الذي حصل أو ربما إشارات تدلّ على ذلك"، وإلا لما أَولت "أمل" هذه النقطة الأهمية لإيصال رسالة واضحة في توقيتها. وقالت المصادر إن "الولايات المتحدة لا تزال تبحث في هذا الملف عن صفقة فتنسبها لنفسها كإنجاز، وهذا ما يُفسّر عدم إعلان الجانب الأميركي عن الاتفاق حتى الآن بانتظار شيء ما. لأن فرض لبنان لشروطه هو أمر لا تستسيغه "إسرائيل" التي تهدف من الترسيم ليسَ فقط إلى الحصول على جزء من المنطقة المتنازع عليها وفقَ خط هوف، الذي يُعطيها مقدار 360 كيلومتراً مربعاً من أصل 860 كيلومتراً يعتبرها لبنان بكاملها ضمن مياهه الإقليمية"، بل أكثر من ذلك، "هي تريد توقيع اتفاق مع لبنان على إنشاء أنبوب بحري مشترك لتصدير الغاز والتخفيف من كلفة تصدير الغاز، وهو ما لن يقبَل به لبنان، لأنه تطبيع اقتصادي يُمهد لعملية أكبر من ذلك". وبانتظار عودة شينكر، تقول المصادر إنه "من غير المعروف إذا ما كانَ المسؤول الأميركي سيأتي ومعه الحل، أو تسبقه عقوبات على شخصيات لبنانية جديدة تعرقل مسار الملف وتسعى الى مزيد من الضغط في اتجاه تنفيذ ما تريده إسرائيل".