جوزف القصيفي
رحلت مهى بيرقدار تلك الصبية التي غرفت من دمشق مدينة الياسمين عطرها، ونهلت من بيروت عندما"كانت ست الدنيا"والعاصمة " الكوزموبوليتية" للشرق العربي ، كل ما تختزن من لالىء الثقافة والفن والابداع،لتلتحق بيوسفها فارس الحداثة في الشعر والادب، وتستكمل معه رواية حب لم ينته، وهو جاز منطلقا سهول العشق العاصف، وتمايل بين وعورة المنعرجات، وتشققت يداه وهو يمسك بتلابيب الصخور، ليعود منبسطا متوهجا مع كل مداعبة قلم لطرس، ومغازلة ريشة للوحة بيضاء الا من شوقها للون وضؤ.
عرفتها، كما عرفت يوسف في بيتهما بغزير، وفي مناسبات شتى. لم تكن حياتهما وردية، لكن دفء المشاعر وعمقها، وعصف الكتابة والفن، كان يكللهما بسعادة غير مرئية ،لم تحجبها يوما سموم الدهر وصروفه.
أذكر انه بعد أيام على أربعين يوسف التقيناها وضمة أصدقاء في مقهى بعد مناسبة ثقافية. كانت لا تزال متشحة بالسواد،أمسكت بكأسها، نظرت إلى البعيد .غامت دمعة في عينيها، بلون الكآبة وقالت " يا جوزف انا حزينة .اليوم أشعر بما يشبه الفراغ. لقد اجتاحني يوسف وملك علي كياني".
مرة التقينا ومجموعة من الأصدقاء في ملهى " ملحم بركات". تمنت عليه أن يغني لها " سلم عليها يا هوى" تمنع اولا بما يشبه العجرفة، اصرينا عليه أن يلبي طلبها ،فكان لها ما أرادت، فتهللت حتى البكاء، ونحن نشدو مع ملحم:" سلم عليها يا مهى...".
مرت الايام قبل أن نلتقي في " الحركة الثقافية - انطلياس" في حفل توقيع كتاب جديد لصديقتها ابنة غزير الشاعرة والرسامة ذات الحضور والتميز باسمه باطولي، وبعد الحفل كم كانت سعادتي كبيرة عندما اوصلتها إلى منزلها على أمل اللقاء .لكننا لم نلتق بعدها أو نتحادث إلى أن أهدتني الصديقة الرسامة، والكاتبة خيرات الزين كتاب مهى الاخير الذين دونت فيه سيرة حياتها بأسلوب رقيق، رشيق، يجذب القارئ اليه كالكيمياء السحرية. وهي سيرة لم تغلف بالمداراة، والمواربة، والامتناع عن كشف اللثام عن كل ما إستبد بها من مشاعر وخلجات. أعجبني الكتاب واتصلت بها مهنئا وكان كلام كثير ذو شؤون وشجون، استذكرنا فيه الماضي وشلة الأصحاب، ولمست كم ان حبها لولديها ورد ويوسف، وفخرها بهما كبيرا. "يقبروني يوسف وورد، هودي حياتي" وهي تتحدث عن إصرارهما على تكريمها، وإصدار مذكراتها بالغا ما بلغت الكلفة، واحاطتها بكل عناية. تواعدنا على اللقاء، وقلت لها: "لن اتخلف عن زيارتك، وسآتي مع باسمة ،وزوجتي التي يسرها التعرف اليك "، إلا أن الانشغالات، وتطور الاحداث، لم يسمحا بالبر بوعدي.
لقد تلقيت بحزن كبير نبأ وفاتها،وانا بالرياض مشاركا في " المنتدى السعودي للاعلام "تحسست دمعة " كرجت" على خدي دونما استئذان تمازج فيها الألم بالذكريات، واطياف من الايام الخوالي، وعادت بي الذاكرة إلى الثنائي يوسف ومهى الذي أضاء ظلمات الليالي بوهج حضوره، وتألقه الثقافي الذي بلغ ذرى الإبداع المتفلت من كل القيود الا قيود الجمالية المحسوسة وغير المحسوسة يغدقها بحبر العطاء وما تختزن الريشة من الوان وظلال. ويأتيك صوت من البعيد:" سلم عليها يا مهى". ويا مهى سلمي على يوسف. أرقدي بسلام.