النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
اشترط جحا قبل أن يخلي الدار أن يحتفظ بمسمار موجود مسبقًا في الحائط.
مرّة دخل على المالك وقال جئت أطمئن على مسماري..
بعدها ببرهة خلع جبّته وفرشها على الأرض وقال بكل هدوء سأنام في ظل مسماري..
هذه من نوادر نصر الدين الخوجا المعروف جداً في أدب الأطفال والذاكرة الشعبية،
وكانت تلك النوادر مدعاة ضحك ودعابة لأنها من صنع المخيّلات.
أما جحا الصهيوني الذي لم يدع حائطًا يدقّ فيه مسماره على طول الحدود اللبنانية مع فلسطين،
فاختار بعض تلال الجنوب ليغرز مساميره الوهمية بحماية الهيئة الدولية المشرفة على إطلاق النار،
ورعاية سمجة من الولايات المتحدة التي تترأس اللجنة.
تسقط أمام هذه الصفاقة الحجج الأمنية والاستراتيجية،
إذ استمعت منذ أيام إلى كلام فخامة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون عند اجتماعه باللجنة الاستشارية الدستورية والقانونية، إذ قال لنا: "في العسكرية الحديثة سقطت قيمة التلال مهما كان ارتفاعها،
من الأهمية بعد أن أصبحت مراقبة المسيّرات أجدى بما لا يقاس".
هنا استأذنت وقلت، ما أرى هذا إلا مسمار جحا على الطريقة الإسرائيلية المباركة والمؤيدة من الولايات المتحدة،
ذلك أن الشهية الإسرائيلية لقضم مزيد من الأراضي العربية تلقى تحفيزًا وتحريضًا من راعيها الجديد،
الذي جهر بأن بلاد العرب هي عقارات يجب إخلاؤها من سكانها، كلما دعت الحاجة،
أو اقتضت الظروف السياحية وأن من حق إسرائيل أن تتوسع على حساب الجوار،
لأنها دولة تستحق ذلك لصغر رقعتها الجغرافية من جهة ولأنها تؤدي أعمالًا عظيمة جدًا من جهة أخرى.
أيها الأصدقاء، قلت في إحدى المناسبات إنني كنت أرى شعار "ملكك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل" شعارًا أقرب إلى الخيال، ولكنني الآن أراه مشروعًا قيد التمهيد لتنفيذه بعد ذلك بصورة أشد إجرامًا مما حدث في العام 1948،
ومؤشرات ذلك تأكيد الرئيس الأميركي على مشروعه السياحي الذي مهده له نتنياهو بتدمير غزة وتشريد شعبها.
إن النقاط الخمس التي لم تنسحب منها إسرائيل، بحجة ان المستوطنين في شمال فلسطين سيطمئنون إلى وجود العلم الإسرائيلي مرفرفًا فوق التلال المقابلة، تشكل عامل فتنة داخلية وإنذارًا دائم الإيلام للكرامة والوجود،
لأن الإسرائيليين سيتوغلون بعد ذلك تحت ذرائع كثيرة كمثل توسعة الطرقات للوصول إلى هذه النقاط،
وضرورة حماية هذه الطرقات بوضع اليد على أرضٍ جديدة، فنكون بهذا أمام تجسيد خرافة مسمار جحا الذي افترش الأرض لينام في ظل مسماره المسموم.
إن إسرائيل تستغل ميزان القوى الراهن أبشع استغلال من أجل لوي إرادتنا لنرضخ لطلباتها التي لا تنتهي،
وهذا يقتضي منّا مزيدًا من التبصر والنقد الذاتي الموضوعي،
والذهاب بقوانا كلها إلى إعادة تكوين السلطة في ظل العهد والحكومة الجديدين،
إشهارًا منا للعالم كله، أننا لسنا لقمة سائغة، ولا قالب حلوى تقضمه النزوات الصهيونية كلما عن ذلك ببالها.
ما مرّت إسرائيل على مكان إلا وتركت وراءها آثار القدم الهمجية، كما يقول الرحبانيان،
وإن المرء ليقف حائرًا ومعجبًا وباكيًا أمام إصرار أهل الجنوب على العودة للبيات ولو في ظل ركامهم،
وليأكلوا مما يستخلصونه من براثن الفوسفور الذي أحرق الخصب وزرع الجدب...
وإن القلوب لتهلع حيال من يحاولون إعادة تركيب أشلاء أحبائهم قبل أن يواروهم قبورهم.
إننا، ومنذ ذلك الكيان، نتمرس بالويلات، ونخسر الرزق والأفراد والأهل،
ولكننا لا نخلي الأمكنة ولو صبوا عليها حمم جهنم.
يبقى مشهد أخير لم أستطع أن أطوي صفحته من ذاكرتي..
هو مشهد الأطفال الذين نجوا من المجزرة الإسرائيلية المتمادية،
لكنهم لا يجدون مأوى أو ملعبًا، أو سبيل ماء..
لاسيّما تلك الطفلة التي وقفت أمام الشاشات وهي تذرف دمع القهر،
وتقول: "لقد حطّموا لعبي.. حطّموا لعبي ومزّقوها"..
إنهم يقتلون الأطفال، ثم يقتلون لعبهم، بلا شفقة،
فكأنهم يخشون أن تدبّ الأرواح في الكائنات الجامدة فتكون شاهدًا بريئًا ومحايدًا على هذا الظلم الكوني.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا