د. سارة ضاهر - رئيسة مجمع اللغة العربية في لبنان
تظلّ اللغة العربية من أغنى لغات العالم من حيث البنية الفكرية والتراكيب اللغوية، إذ تتداخل مستوياتها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية في نظامٍ متكامل يعكس ثراء الفكر العربي الكلاسيكي. وفي هذا السياق، يأتي كتاب “مقوّمات النظرية اللغوية العربية” للدكتور رمزي بعلبكي ليعيد قراءة التراث اللغوي من خلال عدسة نقدية وتحليلية عميقة، مستعرضًا الأسس التي قام عليها الفكر النحوي والمعجمي في الفترة ما بين القرنين الثاني والخامس للهجرة. ويأتي هذا الإصدار بدعم من كرسي الشيخ زايد للدراسات العربية والإسلامية في الجامعة الأمريكية في بيروت، وهو ما يؤكد أهمية دعم المؤسسات الأكاديمية للمشاريع البحثية التي تهدف إلى إعادة إحياء الدراسات التراثية برؤية نقدية حديثة.
تحليل معمّق للنظرية اللغوية العربية
يعتمد الدكتور رمزي بعلبكي في هذا العمل على منهجية تحليلية دقيقة تسعى إلى فك شفرة النظام النحوي العربي من الداخل، بحيث لا تقتصر الدراسة على سرد النظريات التقليدية، بل تتعمق في منطقها الداخلي وعلاقاتها الترابطية. فقد تناول الكتاب عدة مفاهيم مركزية مثل التقدير، والعمل، والقياس، وهي مصطلحات تشكل حجر الزاوية في الفكر النحوي العربي الكلاسيكي.
1. مفهوم التقدير:
يُعدّ مفهوم “التقدير” أحد أكثر المفاهيم تعقيدًا في النظرية اللغوية العربية؛ فهو ليس مجرد تقدير ظاهري بل هو عملية فكرية تحاول من خلالها النحاة استنباط الدلالات غير الظاهرة في النصوص. هنا، يقوم بعلبكي بتفكيك العملية التقديرية إلى مراحل تحليلية تُظهر كيف أن النحاة الأوائل استخدموا أساليب استدلالية مشابهة للمناهج الحديثة في اللغويات، بحيث كانوا يعالجون الفروق الدقيقة بين اللفظ والمعنى عبر ملاحظة السياق والظروف اللغوية المحيطة. ويكشف التحليل أن “التقدير” لم يكن مجرد فرضية جامدة، بل كان أداة لتحريك النص اللغوي وتفسير الظواهر النحوية التي تتجاوز الحروف الصريحة.
2. مفهوم العمل:
يتناول الكتاب أيضًا مفهوم “العمل” في النحو العربي، وهو مصطلح يشير إلى التأثير الذي يمارسه تركيب الجملة على تغيّر حركات الإعراب والوظائف النحوية للكلمات. يقوم بعلبكي بتفسير هذا المفهوم على أنه انعكاس للمنطق الوظيفي الذي اعتمده النحاة، حيث يُظهر كيف أن استخدام الكلمة في موقع معين داخل الجملة يضفي عليها خصائص نحوية تختلف عن تلك التي تحملها في سياق آخر. ومن خلال استقراء شواهد لغوية دقيقة، يبرز الكتاب قدرة النحاة على التمييز بين العوامل الدلالية والتركيبية، مما يجعل من “العمل” مؤشرًا حيويًا لفهم ديناميكية اللغة العربية وتحولاتها عبر الزمن.
3. مفهوم القياس:
أما بالنسبة لمفهوم “القياس”، فهو يمثل منهجية استنباط القواعد النحوية بناءً على استقراء مشابهات بين نصوص لغوية متعددة. يُظهر بعلبكي كيف أن النحاة استخدموا القياس كأداة لتوحيد الظواهر النحوية المتباينة ضمن نظامٍ واحد متماسك. في هذا السياق، لا يقتصر الكتاب على استعراض الطريقة التقليدية للقياس، بل يقوم بتقديم تحليل مقارن يبين أوجه الشبه والاختلاف بين القياس التقليدي والمناهج التحليلية الحديثة، مما يفتح آفاقًا جديدة لفهم كيف استطاع النحاة التوفيق بين التجريد العلمي والواقعية اللغوية.
أهمية البحث التحليلي ومنهجية الدكتور رمزي بعلبكي
يمتاز العمل الذي قدمه الدكتور رمزي بعلبكي بأنه ليس مجرد دراسة تاريخية للنظريات النحوية، بل هو محاولة لإعادة قراءة تلك النظريات في ضوء معايير البحث العلمي المعاصرة. فقد استطاع بعمق تحليله أن يُظهر كيف أن النحاة العرب لم يكونوا واضعي قواعد جامدة، بل كانوا مفكرين لغويين تعاملوا مع اللغة كنظام ديناميكي، يتفاعل مع السياقات الاجتماعية والثقافية. ويُبرز التحليل أن مفاهيم مثل التقدير والعمل والقياس ليست ثابتة، بل هي نتاج عمليات فكرية معقدة تشبه إلى حد كبير المناهج الحديثة في اللسانيات.
كما أن منهج الدكتور رمزي بعلبكي في إعادة قراءة التراث اللغوي يتسم بالدقة النقدية والموضوعية العلمية، إذ يعتمد على مقارنة بين الأساليب التقليدية والنظريات اللسانية الحديثة، مما يساعد الباحث المعاصر على فهم أعمق للآليات التي كانت تُبنى بها القواعد النحوية في التراث العربي. وهذه المقاربة تفتح المجال أمام دراسات مقارنة تساهم في تطوير البحث اللغوي العربي وتحديثه بما يتناسب مع متطلبات العصر الراهن.
دور كرسي الشيخ زايد في دعم البحث اللغوي
إن دعم كرسي الشيخ زايد للدراسات العربية والإسلامية لهذا العمل البحثي ليس مجرد مساندة مالية أو مؤسسية، بل هو تأكيد على رؤية مستقبلية لإحياء الدراسات اللغوية والتراثية العربية. منذ تأسيسه عام 2008، عمل الكرسي على نشر دراسات نوعية في مجالات النحو والمعجم والتفسير اللغوي، وتنظيم مؤتمرات وندوات جمعت نخبة من الباحثين من العالمين العربي والغربي. ويساهم هذا الدعم في تعزيز مكانة اللغة العربية في الأوساط الأكاديمية العالمية وفتح آفاق جديدة لتطوير البحث العلمي في هذا المجال.
بفضل التحليل العميق والمنهجية النقدية التي يتبناها، يثبت كتاب “مقوّمات النظرية اللغوية العربية” للدكتور رمزي بعلبكي أن دراسة النحو العربي لا تقتصر على استظهار القواعد، بل هي ممارسة فكرية تتطلب إعادة تأمل في أسس التفكير النحوي القديم وربطها بالمناهج العلمية الحديثة. إن اللغة العربية ليست مجرد تراث لغوي محفوظ، بل هي نظام فكري متكامل يتسم بالديناميكية والتجدد، يستحق البحث والتطوير المستمر. ومن خلال دعم مشاريع بحثية مثل هذه، يؤكد كرسي الشيخ زايد للدراسات العربية والإسلامية على أهمية الحوار العلمي الذي يعيدنا إلى جذور الفكر العربي ويساهم في رسم مستقبل أكثر إشراقًا للدراسات اللغوية.
إن قراءة هذا الكتاب ليست مجرد رحلة استكشافية عبر تاريخ النحو، بل هي دعوة لإعادة التفكير في كيفية فهمنا للغة، وإدراك الإمكانيات الكامنة في تجديد التراث اللغوي بما يتماشى مع تحديات العصر الحديث. وتظل إسهامات الدكتور رمزي بعلبكي، بخبرته الطويلة وتاريخه العلمي اللامع، بمثابة منارة ينير لها الباحثون طريقهم نحو فهم أعمق وأشمل للغة العربية، مما يجعل من هذا العمل مرجعًا لا غنى عنه لكل من يسعى لاستكشاف كنوز الفكر اللغوي العربي.