الإصلاحُ يبدأ بتحريرِ تشكيل الحُكومَة من الاعتِباراتِ الفئويَّة والشَّخصيَّة
الإصلاحُ يبدأ بتحريرِ تشكيل الحُكومَة من الاعتِباراتِ الفئويَّة والشَّخصيَّة

أخبار البلد - Friday, January 24, 2025 9:24:00 AM

اللواء 

د. عادل مشموشي

إن الحِفاظ على المنحى التَّغييري الذي ظهرت بوادرُه في استحقاقي انتِخابِ فخامةِ الرئيس جوزاف عون وتكليف دولة الرئيس نواف سلام لتشكيل حكومَةِ العهد الأولى قد حظيَ بمباركةٍ دولية وشعبيَّةٍ عارمين، وساهم في إشاعةِ جوٍّ من التَّفاؤل بانطلاقِ المَسارِ التَّغييري، إلَّا أن تعمُّدَ بعضِ المُكوناتِ السِّياسيَّةِ التَّقليديَّةِ إفسادِ حالة الإرتياحِ التي سادت بعد هذين الإستحقاقين، بتبنّي مواقف استفزازية حادَّة، ومن ثم الإصرار على المُضي قدُماً بنمطِ المُحاصَصةِ في تَشكيلِ الحُكومة والتَّهويل بربطِ مُشاركتهمِ بالحُكومة ومنحِها الثِّقة بالتزامِ الرئيس المكلف بتَسميَةِ وزراء يُذكونهم حصراً لتولي وزاراتِ بعينها، قد عكَّرَ الجوَّ التَّفاؤلي السائدِ وأعاق مساعي التَّشكيل، وكاد أن يُولَّدُ شعوراً بالإحباط لدى القوى التَّغييريَّةِ من مغبَّةِ استجابةِ الرئيس المكلَّف ومعه فخامةُ الرئيس لإملاءاتِ بعضِ الكتل النِّيابيَّة على غرار ما كان يحصلُ سابقاً في تشكيلِ الحُكوماتِ وتسميَةِ الوزراء.
لم يكتفِ بعض الكُتلِ بطرحِ أسماء لتولي وزاراتٍ مُعيَّنة، بل سعوا إلى تسويق منهج المُحاصَصةِ الذي كان سائداً، من خلال نشرِ مسودَّاتٍ لتشكيلاتٍ حُكوميَّة افتراضيَّة، بغرضِ جسِّ النَّبضِ الشَّعبي للوقوفِ على مدى تقبُّل المُقارباتِ التي كانت سائدةً وتبييضِ صفحاتِ بعضِ الأسماء ممن مثَّلوا أحزاباً في حُكوماتٍ سابقة، وسعوا إلى احتكارِ تمثيل مَذاهبِهِم بالتَّهويلِ بإفتقاد الحكومةِ للميثاقيَّةِ في حال عدمِ مُشاركتِهِم فيها أو امتناعهم عن منحها الثِّقة إن لم تُلبَّ مَطالبَهُم، مُتنَاسين تحكُّمِهم بالسُّلطةِ لعقودٍ من الزَّمن وتهميشهم للعديد من المُكوناتِ الوَطنيَّة والإتيان بأشخاصِ ليس لهم أي وزن في طوائفهم أو حيثيَّةٍ على المُستوى الوطني، علماً أن افتقادَ الحَكومَةِ للميثاقيَّةِ قد يكون بافتقادِها لتَمثيلٍ وازنٍ لطائفَةٍ وليس لحزبٍ سياسي.
موجة الإحباط المشار إليها كادت أن تعمَّ جميع اللبنانيين لولا الكلمة التي ألقاها دولة الرئيس المُكلَّف من باحة قصر بعبدا والتي وضع فيها النُّقاط على الحروف، بمجرَّد أن أكدَ على أن وجهةَ بوصلةِ تشكيلِ الحُكومة هي الدُّستور، والذي أناطَ صلاحيَةَ تشكيل الحكومةِ بالرئيس المُكلَّف بالتَّعاون مع فخامة الرئيس، رافضاً أن يكون دورهُ أشبه بدور عاملٍ في صندوق بريد يقتصرُ على إدراج الأسماء المُقترحةِ لتولي مناصبَ وزاريَّة في قائمَةٍ يُعرُضُها على فخامَةِ الرَّئيس ليُصارَ إلى إعلان التَّشكيلةِ بإصدارِ مرسومِ تشكيلها، وخيراً فعلَ عندما أعرب عن رغبته في تشكيلِ حكومُةٍ مُستقلَّةٍ حياديَّةٍ فاعلةٍ منسجِمَة، لأنَّه يُدركُ أن تركَ أمرِ اختِيارِ الوزراءِ للأحزابِ سيُؤدِّي إلى تَشكيلِ حُكومَةٍ مُفكَّكَةٍ تحمُلُ في طيَّاتِها بذورَ تعطيلِها كما كان حالُ مُعظَمِ الحُكوماتِ السَّابقة، وهذا ما يُفقِدُها القُدرةَ على الانتاجيَّةِ كما التَّأييد الشَّعبي.بموقفه المُنوَّه عنه صوَّبَ الرئيس المُكلَّف مسار التَّأليف، وعزَّزَ ثِقةَ التَّغييريين بتوجُّهاتِه التَّغييريَّة، وعزَّزَ قناعتهم بأنه الشَّخصَ المؤهلَ لتَشكيلِ حُكومَةٍ إصلاحِيَّةٍ قادرةٍ، بالتَّعاون مع فخامةِ الرئيس، على إدارَةِ المرحلَةِ الانتقاليَّةِ التي يُفترضُ أن تُكرَّسَ خِلالَها مرتكزاتُ الإصلاحِ والنُّهوضِ بالدَّولة، من خلال تَصويبِ الأداء السِّياسي والإلتزام بالدُستور، وفقَ روحِيَّةِ اتِّفاق الطَّائفِ الذي أمعَنت القِوى السِّياسِيَّة التي تحكَّمت بالحياةِ السياسيَّة لثلاثَةِ عُقودٍ من الزَّمن على تَحويرِ مَدلولاتِ بعضِ نُصوصِه وتَعطيلِ البَعضِ الآخر، وإقرار قوانين إصلاحيَّة.
وفقَ الدُّستورِ اللبناني، إن الإستِشاراتِ النيابيَّةِ التي يجريها الرئيس المُكلَّف غير مُلزِمَةٍ، والغرضُ منها استئناس الرئيس المكلَّفِ بآراءِ النُّواب لا إلزامُه بها، خاصَّةً وأنه وحده من يتحمَّل مسؤوليَّةَ نيل الحُكومَةِ التي سيُشكِّلُها ثِقَةَ المَجلِسِ النيابي أو حَجبِها عنها.
حرصُ الرئيس المُكلَّف على نيل الحكومة التي يسعى إلى تشكيلها ثقةَ المجلس النِّيابي أمر بديهي، إلَّا أن هذه الثِّقة ليست المُبتغى، ذلك أن الغرضَ من تَشكيلِ الحُكوماتِ يتمثَّلُ في تكوين سُلطَةٍ تنفيذيَّةٍ مُتماسِكةٍ ومُنتجةِ وفاعلة، وبالتالي لا يُعوَّلُ في تقييمِ الحكومةِ على عددِ الأصواتِ النيابيَّةِ التي منحتها الثِّقة، إنما على مدى رضى الشَّعب على أدائها والإنجازاتِ التي تُحقِّقُها، فلا يُعيبُ الحُكومَات نيلَها الثِّقةِ بعددٍ مُتواضعٍ من الأصواتِ إنما إخفاقاتُها وقلَّةُ إنجازاتها، والعكس صحيح. وعليه ينبغي التَّركيز عند تشكيل الحُكومةِ على احترامِ دُستوريَّةِ الآليَّةٍ المُتَّبعةِ أولاً، ومن ثمَّ استقلاليَّةُ الحُكومةِ عن السُّلطةِ التَّشريعيَّة، وفعاليَّتُها وتجانُسِ أعضائها والتزامِهم بمبدأ التَّضامن الحُكومي، وقدرتِها على تجنُّبِ مخاطرِ الإنقِساماتِ الدَّاخليَّةِ التي قد تعطِّلُها أو تحدُّ من إنتاجيَّتِها.ونظراً لكون الرئيسانِ المعنيانِ دستوريًّا بالتَّشكيل يَحظيان بتأييدٍ دَولي وعربي وشَعبيٍّ فإن حُظوظَ المُعطِّلين في حَجبِ الثِّقةِ عن حكومةٍ تحظى برضىً شعبيٍّ ستكون شبه معدومة، وعليه إنهما مدعوان للمُضي قدُماً بالمَسارِ التَّغييري - الإصلاحي، والتَّحلي بالشَّجاعَةِ والثِّباتِ على موقِفَيهما، ورَفضِ المُساومَةِ على صَلاحِيَّاتِهِما أو الدُّخولِ في بازاراتِ المُحاصَصةِ أو الرُّضوخِ إلى الابتزازِ السِّياسي، والابتِعادِ عن المَقارباتِ اللادُستوريَّةِ التي كانت تَتَحكَّمُ بآليَّةِ تَشكيل الحُكومات إبَّان حقبة نُّفوذِ المُخابراتِ السُّوريَّةِ وما تلاها، والحِرص على تشكيلِ حُكومَةٍ وازنةٍ ومن أشخاصٍ مشهودٍ لهم بكفاءتِهِم وبعيدين كُلَّ البُعدِ عن أيَّةِ انتِماءاتٍ حِزبيَّة، وعليهما ألَّا يُعيرا أي اعتبارٍ للتَّهويلِ بإسقاطِ المِيثاقيَّةِ لأنه من قبيل الإبتزاز السِّياسي المبتذل، ومن غير المنطق اختصار طوائف بأحزابٍ بعينها. ولن يقوى أحدٌ على إعاقة تشكيلِ الحُكومة أو تعطيل مسارِ الإصلاحِ والنُّهوض وإعادة إعمار ما دمَّرته الحرب، طالما اعتُمِدَ معياراً موحَّداً تجاه كل الأحزاب والكتل البرلمانيَّة، وإن أصرَّ البعضُ على المُضي قُدماً بمنهجيَّةٍ مُشاكِسَةٍ متجاهلاً كل المُتغيّرات، سيكون أشبه بمن يصرُّ على السِّباحةِ عكس تَيارٍ جارفٍ وسرعان ما تخورُ قواه ويَجرفُهُ السيَّل إلى حيث لا يشتهي، وسيتحمَّلُ تجاه مناصريه مسؤوليَّةَ تفويتِ فرصَةٍ حقيقيَّةٍ للإصلاحِ والنُّهوض، وإعاقةِ عمليَّةَ إعادَةِ إعمارِ ما دمَّرته الحرب.
إن المِزاج الشَّعبي يتطلَّعُ نحو تبنّي مسارٍ تغييري ينقذُ لبنان من الوضعِ المأزوم، ويُحفِّفُ عن اللبنانيين من وطأةِ الأزماتِ الاقتصاديَّةِ والمَعيشيَّةِ الحادَّة، وعليه لن يكون من السَّهل على فخامة الرئيس ولا على الرئيس المُكلَّف تجاهلَ التَّطلعات الشَّعبيَّة، ولا تهميش القوى التَّغييريَّة التي سهَّلت وصولَهُما إلى السُّلطة، ومن غير الجائزِ أن يحظى من لم يكن مُتحمِّساً على وصول الأولِ وأحجمَ عن تسميَةِ الثَّاني وامتنعَ عن المُشاركةِ في الاستشارات التي أجراها بميزاتٍ حكوميَّةٍ تفوقُ ما يلقاه من شاركوا في تغليبِ المنهجِ التَّغييرِ أو سهَّلوا عبوره، وفي المُقابل لن يكون بمُستطاع القِوى الرَّاديكاليَّةِ الثبات على موقِفها المُتحجِّر لرفضهاِ تقَبُّل المتغيراتِ وفقدانِها القُدرة على التَّحكُّمِ بالخياراتِ السِّياسيَّةٍ بما في ذلك صناعةُ الرؤساء وتشكيل الحُكومات كما كان عليه الحال سابقاً، وأنها أمست شريكاً كباقي الشُّركاء في الوطن، وخيرٌ لها من أن تلحقَ بركبِ التَّغيير قبل فوات الأوان، وأن تبدي مرونةً في تشكيلِ الحُكومةِ، تلافياً لإضطرارِها اللحاق بالرَّكب على غرارِ ما وجدت نفسَها مُضطرَّة لمُجاراتِهِ في انتخاب رئيس الجُمهوريَّة، وإلَّا تكون قد حكمت على نفسها بالعزلة السياسيَّةِ داخليًّا وخارجيًّا، وعندها لن تفلت من المساءلةِ الشَّعبيَّةِ من البيئة المؤيِّدةِ لها نتيجةَ ما لحقَ بالأخيرةِ من ويلاتٍ بسبب الخياراتِ الخاطئة التي تبنَّتها.
لقد آن الأوانُ لمختلف القوى السِّياسيَّة لأن تعي حراجة الوضع اللبناني، والتَّخلي عن مقارباتها الإنكاريَّة، وتغليب المصلحةِ الوطنيَّةِ العليا على مصالِحها الفئويَّة، بتقديمِ الكفاءةِ على المَحسوبيَّة، والإنخراطِ الفعلي بالمَسار التَّغييري الإصلاحي، والمساهمةِ في تعزيزِ الحَوكمَةِ والشَّفافيَةِ والمُساءلةِ ومُكافَحَةِ الفسادِ، وتَحسين مُستوى الخدماتِ التي تُقدِّمها الدَّولة للموطنين، تمهيداً لإرساء مُرتكزات النُّهوض الاقتصادي والبنيوي، بتبنّي سياساتِ اقتصاديَّة منفتحَةٍ وضرائبيَّةٍ تَحفيزيَّةٍ تُشجِّعُ كبارَ المُتمولين على الإستِثمار في لبنان.
ونخلُصُ من كل ذلك للقَولِ بأن المقاربةَ الأمثل لتشكيل الحُكومةِ تتمثَّلُ في وقوف الرئيس المُكلَّف على الهَواجِسِ وأوجه النُّصِحِ التي عرضتها الكتل النيابيَّة وسائر أعضاء المجلس النِّيابي، وأخذها بعين الاعتبار من دون الإلتزام بها، والحرص على تشكيل حكومة تكنوقراط يختار وزرائها من أشخاصٍ مناقبيين وطنيين مُستقلين سياسيًّا من بين الأكفأ على المستوى الوطني في مَجالات الإختصاصِات التي تتطلَّبها الوزارةُ التي سيتولون إدارةَ شؤونها، بعيداً عن الاعتباراتِ الشَّخصيَّة والعائليَّة؛ وفي حال تم تشكيل حكومة بهذه المواصفات، لن تكون هناك أحجياتُ مُقنعةٌ لأي فريقٍ سياسي تبرِّرُ له إحجامَهُ عن منحِ الحُكومَةِ الثِّقة، وإن أصرَّ أي مكوّن على ذلك فليتحمَّل تبعاتِ موقِفِه، مع الإشارة إلى أن عدمَ مُسايرةِ الكتل النِّيابيَّةِ في الإستجابةِ لمَطالبِهم لا يعني إقصاءً لهم أو مُحاولةً لعزلِهم، إنما مراعاةً لمُقتضياتِ المرحلةِ المفصليَّةِ التي يمرُ بها لبنان والمِنطقة.
وخيرُ ما نسترشد به لتدعيم هذا الخيار المثل القائل: «ظلم في السَّويَّة عدلٌ في الرَّعيَّة».

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني