الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: روسيا لم تهزم في سوريا بل حققنا أهدافنا هناك..
فلاديمير بوتين قال إن روسيا لم تهزم في سوريا بل ربحت، وإرهاصات زعم بوتين قد تشير إلى أن روسيا ربما لم تخسر في سوريا وحصلت على كنز ثمين، وتركت لتركيا ما تريد وأخذت هي بدورها ما تبغيه. تفاصيل كثيرة سيتم بلورتها في هذه الكتابة عن صفقة تبادل لمناطق النفوذ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بين موسكو وأنقرة، قد تتيح المجال أمام تركيا للعب دور أكبر على المستوى الإقليمي وربما ترفيعها إلى رتبة لاعب دولي من جديد بعد نكسة الحرب العالمية الأولى، وإعادة إحياء السلطنة العثمانية. أما من جهة روسيا، فاهتمامها ينصب على ما هو أعلى قيمة من سوريا بالنسبة لها، فعيون موسكو شاخصة نحو بوابة القارة الأفريقية: ليبيا.
التحضيرات الروسية في ليبيا كانت سابقة لسقوط الأسد
نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" في 18 كانون الأول 2024 أي قبل ثلاثة أيام من سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، خبرًا يفيد بأنه خلال الأيام الثلاثة التي سبقت سقوط نظام الأسد كانت روسيا تنقل معدات عسكرية وجنود وأنظمة دفاع جوي من قواعدها في سوريا. إلا أن التحضير لعملية مشابهة يتطلب وقتا أكثر بكثير مما أوردته الصحيفة الأميركية وقد يتخطى الأسابيع أو الأشهر، سيما أن في تفاصيل الخبر مذكور أن طائرات شحن روسية قامت بنقل معدات دفاعات جوية متقدمة بما في ذلك رادارات لأنظمة الدفاع الجوي S 400 وS 300 من سوريا إلى قواعد شرقي ليبيا تحت سيطرة الجيش الليبي الذي يقوده خليفة حفتر.
هذا وأظهرت بيانات ملاحية من موقع "فلايت رادار" أن طائرات شحن روسية من طراز "إليوشن 76 تي دي" أجرت رحلات عدة إلى قاعدة الخادم الجوية شرق بنغازي، الأمر الذي يشي بأن العملية تمت فعلًا وروسيا نقلت الكثير من عدتها وعتادها من قواعدها في سوريا إلى ليبيا أي أن عملية التحضير كانت سابقة.
بمعنى آخر، موسكو كانت تستعد لمثل هذه الخطوة قبل سقوط الأسد، فقد أوردت "وول ستريت جورنال" في خبرها أن مسؤولين روس أكدوا لها أن روسيا تدرس تطوير منشآتها في طبرق شرقي ليبيا لاستيعاب السفن الروسية، أي أن دراسة المشروع وتهيئته حاصلة منذ فترة زمنية بعيدة نسبيًا.
على المقلب الآخر، وبطبيعة الحال، رئيس حكومة غرب ليبيا عبد الحميد الدبيبة خرج في 19 كانون الأول عام 2024 واستنكر وطالب روسيا بتوضيحات، وأعرب عن مخاوفه من نقل الصراع الدولي إلى الأراضي الليبية، فالدبيبة يدرك تمامًا أن تعزيز شرق ليبيا لن يكون لصالحه وصالح الغرب الليبي الذي كان النفوذ المطلق فيه لتركيا.
وفي تصريح له، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن "موسكو تتفهم المخاوف المشروعة التي تبديها أنقرة في سوريا وعلى حدودها الجنوبية"، والتصريح هذا جاء تعليقًا على خبر التحركات التركية تجاه الأكراد في سوريا خلال إجابته على أسئلة صحفيين عبر الانترنت في موسكو. هذا الأمر يعني أن لافروف يدعم تركيا في هذه العملية التي ترفضها الولايات المتحدة الأميركية والغرب، الأمر الذي قد يخلق توترات في العلاقات بين أعضاء الناتو أي بين تركيا من جهة الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي تعارض العمليات التركية ضد الجماعات الكردية المسلحة.
روسيا التي من المفترض أنها "خسرت" سوريا وفق ما يتم الترويج له في وسائل إعلام مناهضة لموسكو بسبب دعم تركيا للفصائل المسلحة المعارضة للنظام السابق، ما زالت صديقة للأتراك بل تدافع عنهم وعن تحركاتهم في سوريا... فهل يعقل أن روسيا هُزمت فعلًا بسبب أنقرة ومع ذلك تؤيدها وتدعمها؟
موسكو تبادل مناطق نفوذ لها بمناطق أكثر أهمية
ظهر إلى العيان العديد من المؤشرات والبراهين التي تشي بأن الأمر قد يكون غير ذلك، وأنقرة وموسكو رابحتان على حد سواء والتنسيق بين الجانبين يصل حد التحالف أحيانًا. فإذا استذكرنا ما حدث عند الحدود الغربية لتركيا عام 2023 حين استعادت أذربيجان إقليم ناغورني كاراباخ الذي كان يسبب لها خلافًا عميقًا مع أرمينيا والتي لطالما كانت مدعومة روسيًا لسنوات حيث تفوقت الأخيرة على باكو لمدة ثلاثة عقود على الأقل في مسألة الصراع حول إقليم كاراباخ والسيادة عليه بفضل الدعم الروسي لها. غير أنه في شهر أيلول من العام 2023 رفعت موسكو يدها عن أرمينيا وتقدم الأذريون ووضعوا يدهم على الإقليم، الأمر الذي يصب في المصلحة التركية ومع ذلك توطدت واشتدت متانة العلاقات الروسية – التركية. فبالنظر إلى ما جرى في سوريا وحتى في أرمينيا، تظهر روسيا وكأنها تتخلى عن مناطق نفوذها في آسيا غير أنها تبادل مناطق نفوذ لها بمناطق أخرى ربما تكون أكثر أهمية بالنسبة للروس.
ليبيا.. بوابة موسكو إلى قلب القارة السمراء
ليبيا هدف أساسي للروس وأكثر أهمية حتى من سوريا التي أضحت عبئًا تحت حكم بشار الأسد حيث كانت دولة شبه منهارة باقتصاد منهار وعملة لا تساوي ثمن طباعتها وكانت أيضًا مقسمة لصالح دول أخرى أبرزها الولايات المتحدة وتركيا وإيران. من جهة ثانية، ليبيا دولة غنية وعلى حدود أوروبا الجنوبية وتمتلك سواحل طويلة وممتدة على البحر المتوسط الذي تريده موسكو، فتتمكن حينها من تحقيق غاياتها في تأمين موطئ قدم متين لها في أفريقيا من جهة وفي ساحل المتوسط من جهة أخرى حيث تصبح على مقربة من أوروبا لجهة الجنوب في محاولة لفرض معادلة جديدة في مياه المتوسط الدافئة بآن واحد، كما أن ليبيا أكثر هدوءًا نسبيًا على الرغم من كونها مقسمة أيضًا. ونظرًا لعدد سكانها القليل فثمن السيطرة عليها لن يكون مكلفًا، كما أن ليبيا تمتد على مساحات شاسعة وتوفر مناطق وممرات مهمة للوصول إلى عمق القارة الأفريقية وهذا جُلَّ ما تطوق إليه روسيا: "عمق القارة الأفريقية".
الاستراتيجية هذه بدأت موسكو بتطبيقها منذ فترة وفي السنوات الأخيرة تحديدًا، وأنشأت لأجل غايتها ذراعًا عسكريًا يأخذ مكان فرقة فاغنر في أفريقيا وأطلقت على المجموعة الجديدة اسم "الفيلق الأفريقي" ويخضع لسلطة وزارة الدفاع الروسية مباشرة ومقر قيادته في ليبيا.
إضافةً إلى ذلك، إن الأحداث في غرب أفريقيا التي عززت النفوذ الروسي في ثلاث دول هي النيجر ومالي وبوركينا فاسو وذلك عقب الانسحاب الفرنسي مما يُطلق عليه "مستعمراتها التقليدية والتاريخية"، وأيضًا دعم روسيا لأحداث مماثلة في تشاد جارة ليبيا الجنوبية ودعمها لغرب السودان الذي له حدود مع ليبيا. فضلًا عن أن الجزائر أكبر الدول الأفريقية التي تتمتع بعلاقات جيدة مع روسيا حيث يربط الطرفان اتفاقيات تعاون في المجال العسكري والفضائي وعقود شراء أسلحة تستفيد منها الجزائر لتطوير ترسانتها وقواتها المسلحة.
موسكو تريد أفريقيا، وأنقرة قدمت لها ما هو أكثر من ليبيا، فهي قدمت لها المفتاح لبوابة أفريقيا حيث لتركيا نفوذ قوي في القارة بدول اخرى غير ليبيا، وعلى رأسها النيجر حيث تتمتع حاليًا روسيا بنفوذ قوي فيها، هذا فضلًا عن التواجد التركي في كل من الصومال ودول الشرق الأفريقي المحاذية للبحر الأحمر حيث تسعى موسكو إلى دخولها كونها توفر لها فرصًا أفضل للضغط على الغرب.
لذا، وبالنظر إلى العلاقات التركية – الروسية وما جرى بينهما في السنوات الأخيرة، يمكن القول إن هناك تنسيقًا وتخطيطًا كاملًا يرافق تحرك البلدين يصل حد الصفقة، صفقة تعتبر مجزية ومربحة للطرفين حيث تمكنت تركيا من ردع أرمينيا وتعزيز حضورها في أذربيجان وكذلك سوريا التي باتت أقرب للأتراك أكثر من أي وقت مضى. في المقابل، روسيا مرتاحة جدًا في تقدمها في القارة الأفريقية وإقصاء النفوذ الغربي منها تدريجيًا وعلى هذا ستُفهم الثقة التي كان يتحدث بها فلاديمير بوتين عن انتصاره في سوريا، على أنها انتصار للمصالح والمآرب الروسية الخارجية.