سيلينا بريدي
يوم الاربعاء 27 تشرين الثاني 2024، وبعد ساعاتٍ أمضاها أبو علي على الطريق، وصل مع عائلته إلى مدينة صور، بعد نزوحٍ قسريٍّ إلى منطقة الفيدار نتيجة القصف الإسرائيلي العنيف الذي طال المدينة. عند وصولهم إلى منزلهم، وجدوا أنفسهم أمام مشهد مرعب، صاروخًا إسرائيليًا غيرُ منفجر اخترق الطابق الرابع عشر من المبنى المكوّن من 16 طابقًا واستقرّ داخل شقتهم. أبو علي، الذي لم يكن يتمنى أن يجد منزله مدمّر جراء صاروخ غير منفجر، قرر التحرك.
في اليوم التالي، أبلغت العائلة مخابرات الجيش اللبناني التي توجّهت إلى المكان وفككت الصاروخ بحرفية عالية، مُنهية بذلك لحظات الخوف التي عاشتها الأسرة والجيران. هذه الحادثة لم تكن سوى واحدة من مئات القصص المُشابهة في لبنان، حيث لا تزال الذخائر غير المنفجرة تُهدد حياة السكان، لتُذكّرهم بأن الحروب لا تنتهي بانتهاء القصف، بل تترك خلفها إرثًا قاتلًا يمتد لسنوات.
مخاطر كبيرة على مرّ السنين
لا تزال أراضي لبنان، البلد الذي أنهكته الحروب والنزاعات، شاهدة على مآسي الماضي. وخلّفت الحروب التي اجتاحت هذا البلد الصغير، آثارًا تمتد إلى يومنا هذا، حيث تنتشر الذخائر غير المنفجرة في العديد من مناطقه. ولكن قبل الغوص بمختلف هذه المراحل، لا بدّ من التعرف على أنواع الذخائر غير المنفجرة. وهي ببساطة، كل أنواع الأسلحة التي لم تنفجر عند إطلاقها أو إسقاطها وتبقى قابلة للانفجار بعد مرور الوقت.
العميد الركن المتقاعد سعيد قزح يشرح مختلف أنواع الذخائر غير المنفجرة pic.twitter.com/j51EkzrRl9
منذ الحرب الأهلية التي استمرت من عام 1975 حتى 1990، إلى الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وعلى مدار عقود عانى لبنان من وجود أعدادًا كبيرة من الألغام والقذائف غير المنفجرة. وجاء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 ليزيد من تعقيد المشهد، مع قصف مكثف طال مناطق جنوب لبنان وبيروت. ومع نهاية الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 2000، عادت الأراضي المحررة لتشهد تهديدًا جديدًا مع وجود كميات ضخمة من الذخائر والألغام التي تركها الجيش الإسرائيلي وراءه.
كانت الحرب الأخيرة في تموز 2006 فصلًا جديدًا في هذه القضية، فخلال 33 يومًا، ألقى الجيش الاسرائيلي عددًا كبيرًا من القنابل العنقودية على جنوب لبنان. هذه الذخائر، التي تتناثر بشكل عشوائي، تجعل من كل حركة على الأرض مغامرة خطيرة، خصوصًا في المناطق الزراعية والرعوية.
إذًا، مرحلة تلوث لبنان لم تنته حتى يومنا هذا، إذ إن عددًا كبيرًا من القنابل العنقودية بقي، كما أن الالغام ما زالت موجودة على طول الخط الأزرق ومناطق متفرّقة في لبنان، وتحديدًا في مواقع مراكز إسرائيلية سابقة.
نحو المربّع الأوّل
يشرح مصدر في الجيش اللبناني أنه في الوقت الذي اقترب فيه لبنان من إعلان التخلص من غالبية هذه الذخائر غير المنفجرة وبالتحديد 92% منها، بدأت المواجهات بين اسرائيل وحزب الله في تشرين الأول 2023، والتي استمرت لمدة عام كامل، لتعيدنا إلى المربّع الأول، إذ إن كافة المناطق التي تعرّضت للقصف الإسرائيلي يُحتمل أن تحتوي اليوم على ذخائر غير منفجرة.
خطورة هذه الذخائر تكمن في عدم توقّع انفجارها، حيث يمكن أن تبقى كامنة لعقود قبل أن تُفجرها خطوة شخصٍ ما أو ضغطٍ غير مقصود. كما تُعيق الذخائر غير المنفجرة الأنشطة اليومية للسكان، من الزراعة إلى البناء، وتخلق حالة من الخوف المستمر لدى المجتمعات التي تعيش في المناطق الملوثة بها.
ومنذ دخول اتفاق الهدنة بين لبنان واسرائيل في 27 تشرين الثاني 2024، نلاحظ أن الجيش اللبناني يقوم بأكثر من عملية تفجير ذخائر في اليوم الواحد وتشمل مختلف المناطق اللبنانية، مثل بلدات شبعا، القليلة، يحمر، السماعية، أرنون،جرد رأس بعلبك، جرنايا، وغيرها من المناطق.
المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام
للتصدي لهذا التهديد المستمر، أنشأت الحكومة اللبنانية بالتعاون مع الجيش "المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام" عام 1998. هذا المركز يعمل تحت إشراف الجيش اللبناني، بالتنسيق مع المنظمات الدولية، التي تقدم الدعم التقني والمالي والميداني.
يرتكز عمل المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام على ثلاث مراحل رئيسية:
1- المسح الميداني: وخلال هذه المرحلة يقوم الفريق المختص بمسح المناطق المشتبه بتلوثها، معتمدًا على معلومات السكان المحليين والسجلات التاريخية. يتم استخدام تقنيات متخصصة للكشف عن الذخائر.
2- تصنيف المناطق: بعد جمع المعلومات وتحليلها، تُصنّف المناطق على أساس درجة الخطورة، إلى مناطق آمنة وتلك التي تحتاج إلى تدخل فوري. هذا التصنيف يساعد في حماية السكان وتوجيه الموارد بكفاءة.
3- إزالة الذخائر: تبدأ فرق التفكيك عملها في المواقع المصنفة على أنها خطرة. يتم تفكيك الذخائر أو تفجيرها بشكل آمن، مع ضمان أن تصبح الأرض صالحة للاستخدام مجددًا.
وهنا، نذكّر المواطنين اللبنانيين بضرورة الابلاغ فورًا في حال مصادفة ذخيرة غير منفجرة ، عبر الاتصال على الرقم 05/956143 أو على الـ1701.
التعاون والتدريب ضرورة
يُعتبر التعاون بين المركز اللبناني والأطراف الدولية أمرًا أساسيًا لضمان نجاح إزالة الذخائر غير المنفجرة. فالمنظمات الدولية تُقدّم الدعم من خلال تدريب الفرق المحلية، وتوفير المعدات الحديثة، وتمويل عمليات المسح والتفكيك. أيضًا، يتم تنظيم حملات توعية للسكان المحليين لتحذيرهم من مخاطر التعامل مع أي أجسام مشبوهة.
ويؤكد المصدر في الجيش اللبناني أن الجيش مجهّز كل التجهيز للتعامل مع أحدث الذخائر غير المنفجرة، فهو يتلقى التدريب اللازم على مر الأشهر وفقا لما تقتضيه الحاجة.
أما العميد الركن المتقاعد سعيد قزح فيشدد من جهته على أن لدى الجيش اللبناني الخبرة الكافية واللازمة والمتطورة للتعامل مع هذا التحدي، وبحسب المعايير العالمية.
قزح: فوج الهندسة في الجيش اللبناني يتمتّع بالخبرة العالية والمميزة للتعامل مع تفجير الذخائر غير المنفجرة pic.twitter.com/g9gEiFhNfn
يمكن القول أنه ورغم الجهود الكبيرة التي يبذلها المركز اللبناني بالتعاون مع شركائه الدوليين، إلا أن التحدي لا يزال قائمًا. فالمساحات الشاسعة الملوثة، ونقص التمويل الكافي، وغياب خطط شاملة لتعويض المتضررين، تجعل من إنهاء هذا الملف أمرًا بعيد المنال، فإزالة الذخائر غير المنفجرة تتطلب وقتا ومعاملة استثنائية نظرًا للخطورة التي يمكن أن تشكلّها.
ويبقى الأمل معقودًا على استمرارية الدعم الدولي والمحلي، والعمل الميداني الدؤوب، لإنقاذ لبنان من إرث الحروب القاتل، وإعادة الأرض لأصحابها بأمان.
يُنشر هذا التقرير في إطار البرنامج التدريبي حول "أسس ومبادئ التغطية الإعلامية لقضايا الأمن في لبنان" الذي نظمّته مؤسسة "مهارات" بدعم من مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن "DCAF". هذا المحتوى لا يعكس بالضرورة آراء مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن.