عبدالله بن بجاد العتيبي - الشرق الأوسط
عرفت تواريخ الأمم أياماً وشهوراً وسنواتٍ مثلت تحولات كبرى وتغيراتٍ عظمى كان لها ما بعدها؛ لأنها حصدت ما قبلها بالوعي والرؤية والاستشراف، وهذا الشهر من هذا العام يبدو معبراً عن واحدةٍ من تلك اللحظات التاريخية الاستثنائية.
هذا الشهر كانون الثاني 2025 شهرٌ سيتذكره التاريخ طويلاً لأحداثٍ رمزيةٍ تعبر عن نتائج صراعاتٍ طويلةٍ تاريخياً ودولياً وإقليمياً، أما التاريخ فصراعاته السياسية شديدة التعقيد بمنطقتنا في العقود الماضية قد تمخضت عن هزيمة «محور المقاومة»، وهذه الهزيمة هي هزيمة لـ«توحش الأقليات» ميليشياتٍ وتنظيماتٍ، ولمشروعٍ إقليميٍ ضخمٍ ذي امتداداتٍ وعلاقاتٍ ومصالح دوليةٍ كبرى، ويشهد العالم آثار هذه الهزيمة في سقوط «نظام الأسد» في سوريا، و«عودة الدولة» في لبنان، والنهاية القريبة لأتباعه في فلسطين واليمن.
أما دولياً، فسيتمّ تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب رئيساً مرةً أخرى لأميركا أقوى إمبراطورية في التاريخ، في تعبيرٍ رمزيٍ مكثفٍ عن هزيمةٍ تاريخيةٍ لـ«اليسار الليبرالي» في أميركا آيديولوجياً، واجتماعياً، وثقافياً، وسياسياً.
أما إقليمياً، فيجب ألا يلهي الفرح بسقوط «محور الممانعة» الطائفي عن انتعاشٍ سيشهده «محور الأصولية».
ما جرى في لبنان «انتصارٌ»؛ لأن الدولة هناك بدأت طريقاً جاداً في العودة لنفسها ولشعبها، وما جرى في سوريا «انتصار» لسقوط نظامٍ ليس له مثيلٌ في بشاعته وديكتاتوريته في القرن الماضي بأسره، والشعبان اللبناني والسوري جديران بمستقبلٍ زاهٍ لا تتحكم فيه أي محاور إقليمية غير عربية إن طائفياً أو أصولياً.
احتفى الشعب اللبناني بالتغيّر الدراماتيكي للتاريخ في دولتهم والمنطقة، وانتُخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً للدولة بعد عقودٍ من اختطافها من بعض القوى السياسية المسيحية والشيعية المنتمية لما كان يُعرف بـ«محور المقاومة». ولئن كانت قوة السلاح الذي حكم لبنان خارج الجيش وضد الدولة جاءت من إيران وسوريا؛ فقد كان غطاء الشرعية السياسية والدولية يأتي من تيارٍ مسيحي معروفٍ لا تقل مسؤوليته عن ذلك التاريخ الأسود عن مسؤولية «حزب الله».
لبنان كان دولة «مختطفة» أو دولة «رهينة»، وبكل الأحوال «شبه دولة» سياسياً، وهي عاشت حرباً أهليةً طاحنةً، وتدخل فيها سياسياً وأمنياً غالب دول المنطقة، واختلفت قوة الأطراف داخلها بحسب المراحل الزمنية، فمن «منظمة التحرير» الفلسطينية إلى الفصائل والأحزاب التابعة لسوريا أو لإسرائيل. ولئن كان جنوبها محتلاً من إسرائيل في مرحلةٍ من المراحل؛ فلقد كانت بقيتها محتلة من سوريا الأسد وإيران.
اختطفها «حزب الله اللبناني» وجعلها «رهينةً» لدى «محور المقاومة»، وأصبح قرارها لعقودٍ من الزمن رهناً لغيرها؛ لـ«محور المقاومة» بلونه الدموي القاني، ولـ«سوريا الأسد» المنخرطة معه في «توحش الأقليات»، وهو ما أوصل دولة لبنان أو «سويسرا الشرق» لتصبح غير قادرة على التعامل مع «القمامة» في شوارعها وأحيائها، فضلاً عن التحكم في مصيرها السياسي.
نورٌ ثقافيٌّ أشعَّ من دول الخليج العربي على المنطقة، وأشرقت «شمس ثقافة خليجية» بحسب مقال نشره كاتب هذه السطور في 2007، وسطع نجاحٌ تنمويٌّ جديد، غير نفطيٍّ، بدأ من دبي وقال عنه الأمير محمد بن سلمان: «إنه لو ننظر للشرق الأوسط، كانت الدول التي تعمل بشكل جيد تعتمد على النفط، لكن أتى رجل في التسعينات أعطانا نموذجاً أننا يمكننا أن نقدم أكثر... الشيخ محمد بن راشد».
ومع تولي الملك سلمان مقاليد الحكم في السعودية عرف العالم بأسره «السعودية الجديدة» سياسياً واقتصادياً وتنموياً، عبر قيادة ولي عهده صاحب رؤية «السعودية 2030»، وعبر السياسات والاستراتيجيات والرؤى المتماسكة والإدارة الواعية لكافة الملفات؛ ما شكَّل بالفعل «نموذجاً» بدأت تهتف له شعوب المنطقة حتى تلك التي تمثل محاور غير عربية.
قبل عقدٍ ونصف العقد من الزمن وإبان «الربيع العربي» الأسود، وقفت السعودية والإمارات والكويت موقفاً تاريخياً ضد كل القوى الدولية والمحاور الإقليمية في مصر والبحرين وعدد من الدول العربية غيرهما حتى انقشعت الغمة، ولم تستخدم قَطّ شعاراتٍ باليةً ولا آيديولوجياتٍ مهترئة، ولكنها السياسة والاقتصاد والوعي المتقدم.
أخيراً، فلدى لبنان اليوم فرصةٌ تاريخيةٌ بأن يكنس من بلاده عقوداً كئيبةً مضت مع كل ما يمثلها من رموزٍ طائفيةٍ، وطبقةٍ سياسيةٍ، ومواضعاتٍ اجتماعية، وعلاقاتٍ خارجيةٍ، ليعود «دولة مستقلة ذات سيادة» تمنح الأمل لشعبها، وترص الصفوف لمستقبلها، وتتبصر طريقها جيداً مع عمقها الاستراتيجي العربي.