د. سارة ضاهر – رئيسة مجمع اللغة العربية في لبنان
تخيل لغةً تمتلك إرثًا أدبيًا ومعرفيًا يمتد لقرون، لغة استطاعت أن تكون جسرًا نقل العلوم والفنون إلى العالم بأسره. الآن، تخيل أن هذه اللغة، بكل هذا الغنى، تجد نفسها تتراجع في عقر دارها، عاجزة عن فرض حضورها بين أبنائها. هذا ليس سيناريو خياليًا، بل هو الواقع الذي تعيشه اللغة العربية اليوم. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل المشكلة تكمن في سوء تقدير العلماء والقائمين على مؤسسات اللغة لمكانتها؟ أم أن الفشل الحقيقي يكمن في العجز عن ترجمة الخطط إلى خطوات عملية ملموسة؟
ما يحدث اليوم ليس مجرد تراجع عابر، بل أزمة تكشف عن خلل عميق في فهم دور اللغة في حياة المجتمعات. العربية، التي كانت يومًا لغة العلم والمعرفة، تواجه اليوم خطر العزلة. السبب ليس في اللغة ذاتها، فهي تمتلك كل مقومات التطور، بل في الطريقة التي تم التعامل بها معها عبر السنوات. الخطابات التقليدية التي تتغنى بجمالها وقواعدها لم تعد كافية لإعادة جذب الأجيال الجديدة، التي تبحث عن لغة تعبر عن واقعها وتطلعاتها.
رغم ما يُقال عن حماية اللغة، فإن هذه الجهود ظلت سطحية في كثير من الأحيان. لم تُقدم حلول تُعيد اللغة إلى مركز الحياة اليومية، بل بقيت هذه الجهود حبيسة المؤتمرات والندوات التي تخاطب النخب، دون أن تصل إلى عمق المجتمع. وهنا تكمن المشكلة الكبرى: كيف يمكن للغة أن تبقى حية إذا كانت معزولة عن واقع مستخدميها؟
الأزمة ليست في قلة الموارد أو غياب الإمكانيات، بل في غياب رؤية شاملة تجعل اللغة أولوية قومية. أنظمة التعليم لا تزال تقدم العربية بأساليب تقليدية تجعل الطلاب ينفرون منها. الإعلام العربي، بدلاً من أن يكون منصة لإحياء اللغة، يساهم أحيانًا في تهميشها لصالح اللهجات أو اللغات الأجنبية. وحتى في مجالات التكنولوجيا والمحتوى الرقمي، ما زالت اللغة تعاني من نقص حاد في التمثيل، وكأنها لغة خارج سياق العصر.
إعادة إحياء اللغة العربية لا تحتاج إلى معجزات، بل إلى إرادة حقيقية ورؤية جريئة. يجب أن تتحول اللغة إلى عنصر جذب، من خلال تقديمها بأساليب مبتكرة وممتعة. استثمار التكنولوجيا لصالح اللغة، مثل تطوير تطبيقات تعليمية وألعاب إلكترونية تفاعلية، يمكن أن يكون خطوة مهمة. كما يجب أن يتحول التعليم إلى تجربة محفزة، تعزز ارتباط الطلاب بلغتهم من خلال أساليب حديثة تحترم عقولهم واحتياجاتهم.
ما تحتاجه اللغة اليوم هو أن تُدمج في حياة الناس بشكل طبيعي، من خلال الإعلام، الفن، وحتى منصات التواصل الاجتماعي. على المؤسسات الثقافية أن تعيد التفكير في دورها، فتتحول إلى مراكز للإبداع اللغوي، تقدم العربية كرؤية مستقبلية وليس فقط كإرث ماضوي.
اللغة العربية ليست مجرد كلمات، بل هي روح وهوية. إذا استطعنا أن نعيد تقديمها للعالم ولأنفسنا كأداة للإبداع والتطور، فإنها ستعود إلى مكانتها الطبيعية. التحدي الحقيقي يكمن في الاعتراف بأن المشكلة ليست في اللغة، بل في طريقة التعامل معها. وهذا هو المفتاح لإطلاق إمكانياتها الكامنة.