جوروج شاهين
على وقع «نكبة 4 آب» التي حلّت بلبنان، ازدحمت الأجواء اللبنانية بطائرات الاغاثة والبوارج الحربية والمبعوثين الدوليين وممثلي وكالات الإغاثة والخبراء ولجان التحقيق، بعدما سبقهم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إليها. وهو ما دفع الى البحث في الأزمة السياسية التي أسقطت حكومة «مواجهة التحديات» وفتحت الافق على مخارج عاجلة، ما زالت في غرفة الولادة الدولية - المحلية التي تشرف عليها باريس. وعليه، كيف قلبت باريس «الآليات الدستورية» لتقود الاستشارات النيابية بالمقلوب؟
بفارق ساعات قليلة كاد موكب وزير خارجية ايران محمد ظريف أن يلتقي وموكب وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل في شوارع بيروت. فقد تداخلت زيارتاهما بين المقار الرسمية بنحو متلازم، فيما السفير الفرنسي في بيروت برونو فوشيه يشغل هواتفه الخلوية مع المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في قصر الصنوبر عصر 6 آب من اجل تسويق «مبادرة رئاسية» تؤدي الى تشكيل حكومة جديدة على أنقاض الحكومة السابقة، التي على ما يبدو كان القرار قد اتخذ بإقالتها نتيجة التداعيات التي رافقت وتلت انفجار المرفأ وما خَلّفه من ذهول في العالم أجمع.
كان الإعتقاد سائداً انّ أحداً من أركان السلطة يجب ان يدفع الثمن، وانّ التضحية بواحد منهم باتت واجبة منعاً لبلوغ مرحلة المس بالسلطات الاخرى. فالسلطة التنفيذية متمثلة بحكومة الرئيس حسان دياب كانت الأكثر هشاشة وضعفاً في سلّم السلطات الدستورية، ومنعاً للمس بتركيبة المجلس النيابي الذي يجسّد السلطة التشريعية او رئاسة الجمهورية بعدما ارتفعت الأصوات في هذه الإتجاهات محلياً ودولياً أسقطت حكومة دياب بالضربة القاضية. فالعالم كان على يقين انّ لبنان الدولة لم يعد قادراً على المواجهة وحيداً، وقد فشلت مختلف السلطات في توفير المعطيات القانونية والمالية والدستورية المطلوبة من اجل فتح الآفاق امام المخارج الممكنة للأزمة المالية والنقدية التي تعيشها البلاد بعدما باتت محصورة بالبوابة الإجبارية المتمثّلة بصندوق النقد الدولي. فلا تمكنت من توحيد الخسائر في القطاع المصرفي، ولم تنتج قانون «الكابيتال كونترول»، ولم تنجح في تشكيل الهيئة الناظمة للكهرباء وهو أمر كان مطلوباً بإلحاح، فرسبت السلطة في تسويق إنجاز تشكيل مجلس إدارة جديد للكهرباء.
لم تكن هذه المعطيات مجرد سيناريو، فكل المراجع الديبلوماسية التي قررت التدخّل في مجرى الأحداث الناجمة من الكارثة الإنسانية التي حَلّت ببيروت وسكانها ومحيطها فرضت تشكيل «لوبي» دولي لإنقاذ لبنان. ولم يكن المجتمع الدولي، الذي رأى نفسه مُلزماً بتقديم الاغاثة الفورية للمتضررين من أسوأ أزمة إنسانية، على اقتناع تام بعدم التدخّل في الشأن السياسي. فلبنان، على رغم من حجم الأزمة الاقتصادية الخانقة التي كان يعانيها، بقيَ محاصراً من جهات العالم كافة. وكانت القطيعة العربية والغربية قد بلغت الذروة مع أركان السلطة. لكن ما حصل في مرفأ بيروت وتردداته العالمية لم يترك هامشاً للمجتمع الدولي يحول دون التدخل الفوري. فتقلّصت المسافات المتباعدة بين لبنان وبينه، وطرحت زيارة ماكرون الأزمة السياسية على المجتمع الدولي بالتوازي مع ما تركته النكبة ببيروت ولبنان أملاً في الخروج من الإثنتين معاً او رسم الطريق المؤدي الى ذلك على الأقل، فالحلول الكبيرة صعبة وبعيدة المنال.
عند هذه المحطة جاء الطرح الفرنسي في توقيته وشكله ومضمونه ليُحاكي الحالة الصعبة. فطرح ماكرون خريطة طريق من محطتين أساسيتين: قالت الاولى باستقالة حكومة دياب، والثانية بتشكيل حكومة جديدة من نوعين: الأولى قالت بحكومة «وحدة وطنية» او من «الاقطاب» كما فهم بعض القادة اللبنانيين برئاسة سعد الحريري، وثانية من المستقلين رئيساً واعضاء من دون استثناء تكون مهمتها الاشراف على اعادة إعمار ما تهدم، والثانية لمهمة إصلاحية تُحاكي ما يطالب به المجتمع الدولي ممثلاً بصندوق النقد الدولي تمهيداً للخروج من الازمة الاقتصادية.
ولمّا طرحت الفكرة على اللبنانيين ومن بعدهم على المجتمع الدولي، كان الفرنسيون مقتنعين بضرورة ان تكتسب المبادرة موافقتين إضافيتين على الأقل من طهران وواشنطن. ولكن بعد ايام قليلة تبدّلت المعطيات. ورغم نجاحها في ترجمة البند الأول المتصل باستقالة حكومة دياب، تبيّن لباريس صعوبة تنفيذ الثانية قبل نيل هذه الموافقة المزدوجة من طرفين أساسيين كانت باريس على تواصل معهما لكنّ حجم النزاع بينهما عَطّل المبادرة في الشكل المطروح.
وعليه، تعترف مصادر واسعة الاطلاع انّ باريس لم تستسلم، فقد تبلغت بأجواء ارتياح وسَعي لبناني من قصر بعبدا وعين التينة مدعومة بالضاحية الجنوبية دفعتها الى البحث عن آلية مختلفة عن تلك المطروحة لتحقيق البند الثاني من المبادرة. فقلبت الصورة وقررت ان تنطلق من معطيات مختلفة، وهو ما أثمَر الورقة الجديدة التي وضعتها مطلع الأسبوع الجاري تحت عنوان تشكيل «حكومة مهمة». فقدمت التفاهم على البيان الوزاري وما هو مطلوب من الحكومة «الانقاذية» قبل البحث في الآليّات الدستورية التي تفرض على رئيس الجمهورية الدعوة الى الاسشارات النيابية الملزمة وتكليف رئيس جديد لتشكيل الحكومة. ذلك انّ ايّ تفاهم على المرحلة الثانية قد يقود الى التفاهم على اسم من يتولى مهمة التشكيل.
عند هذه المحطة - تعترف المصادر عينها - انطلقَ العمل الجدي، ويبدو لها انّ رئيس الجمهورية أعطى الضوء الأخضر لانطلاقها وتعهّد رئيس مجلس النواب نبيه بري لأصدقائه الفرنسيين باستعداداتها للمهمة، فبدأت ورشة السعي بالتنسيق مع بعبدا لهذه الغاية، وكانت سلسلة الاجتماعات المتواصلة بينهما والأطراف الأخرى المعنية بالعملية.
وهنا تبقى الإشارة ضرورية الى انّ تسمية بري للحريري هي اجتهاد شخصي من خارج المبادرة الفرنسية التي لم تتحدث عن اسماء لا مع واشنطن ولا باريس في انتظار التفاهم على «المهمة». ورغم ذلك لا تشكّك المصادر في سَعي بري الجدي الى تسهيل هذه المهمة الصعبة، والتي زادت تعقيداتها بعد صدور حكم المحكمة الخاصة بلبنان وتثبيت التهمة على مسؤول من «حزب الله» بارتكاب جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وهو ما أدى الى سيناريو يصعب ان يؤدي الى تسمية نجله سعد لمهمة التشكيل. فمن اولى ما سيكون مطروحاً على اي حكومة، عدا عن معالجة الازمة الاقتصادية والمالية واعادة الاعمار، تسليم سليم عياش للمحكمة في ظروف لا يمكن ان تتجاهل تداعيات الحكم المرصودة في اكثر من دولة عربية وغربية في العالم تريد الاقتصاص من «حزب الله» بطريقة تفوق إصرار بعض اللبنانيين وربما من بين أولياء الدم على القيام بهذه الخطوة، التي تبدو انها مستحيلة حتى اللحظة.
عند هذه المفارق تتوقف المبادرة الفرنسية، ويبقى الرهان قائماً على من يقود المفاوضات الصعبة والمعقّدة للوصول الى هذا السيناريو، ليجعله قابلاً للتطبيق. وهو ما ستكشف عنه تطورات الايام المقبلة، فالطرح الفرنسي لتشكيل الحكومة بالمقلوب يُراد اكتماله قبل زيارة ماكرون مطلع ايلول الى بيروت. وهو سيناريو ما زال يخضع للنقاش في غرف العناية المشكّلة بين باريس وبيروت واكثر من عاصمة، بشيء من الأمل في إمكان تحقيقه للخروج من المأزق. فلبنان شهد حلولاً اجتراحية لا تقرّ بها المعادلات السياسية الطبيعية، ومن قال انه لا يمكن ان يشهد على تحقيق اللامستحيل.