دويتشه فيله
أعلنت ألمانيا بعد وقت قصير من سقوط الديكتاتور بشار الأسد في الـ8 من كانون الأول/ديسمبر 2024 وقفها معالجة طلبات لجوء المواطنين السوريين.
وفقط بعد 36 ساعة من إعلان فصائل معارضة سورية مسلحة السيطرة على العاصمة السورية دمشق، أوقفت الحكومة الألمانية البت في أكثر من 47 ألف طلب لجوء معلق لمواطنين سوريين. وتبعتها خلال ساعات قليلة كل من فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وبعض الدول الأخرى.
وأدت هذه القرارات إلى إثارة حالة من التوتر لدى أكثر من مليون وخمسمائة ألاف سوري استقروا في أوروبا منذ بدء الحرب الأهلية السورية في عام 2011.
هذا وقد ثارت ضجة كبيرة بسبب تصريحات وزير الداخلية النمساوي غيرهارد كارنر، الذي وجَّه لوزارته تعليمات تقضي بإعدادها برنامج من أجل عملية "العودة والترحيل المنظمة إلى سوريا". وكانت هناك أيضًا مطالب مشابهة من سياسيين ألمان.
ويبدو أنَّ الحكومات الأوروبية تريد استغلال سقوط الأسد كفرصة مناسبة من أجل الرد على تزايد استياء شعوبها من أعداد المهاجرين المرتفعة.
وقبل الإعلان عن وقف البت في طلبات اللجوء، كان يوجد بحلول نهاية تشرين الأول/أكتوبر أكثر من 108 آلاف طلب لجوء مفتوح لمواطنين سوريين في الاتحاد الأوروبي، بحسب وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء (EUAA).
وهذه القرارات السريعة تتناقض بشكل صارخ مع ثقافة الترحيب خلال ذروة أزمة اللجوء والهجرة في عامي 2015 و2016. وفي تلك الفترة، كان بعض المواطنين الألمان يستقبلون اللاجئين السوريين في محطات القطارات بحفاوة ويقدمون لهم زجاجات الماء والطعام.
توجه أوروبي حتى قبل سقوط نظام الأسد
وأثارت هذه إجراءات هذه الحكومات الأوروبية حالة كبيرة من الخوف والشك في وقت كانت فيه جماعة المعارضة الرئيسية، هيئة تحرير الشام، في صدد تشكيل حكومة انتقالية من أجل تحقيق الاستقرار في سوريا.
ويبدو أنَّ السبب السابق لثقافة الترحيب في ألمانيا لم يعد مهمًا اليوم. وفي ذلك الوقت كانت حُجة السياسيين الألمان أنَّ اللاجئين السوريين يجب قبولهم ليس لأسباب إنسانية فقط، بل كان يجب أن يساهموا في التخفيف من نقص اليد العاملة في أوروبا.
وتشير أناستازيا كاراتساز، وهي محللة في مركز أبحاث "المجموعة السياسية الأوروبية" (EPC) في بروكسل، إلى أنَّ الاتحاد الأوروبي قد كثَّف مؤخرًا جهوده لإعادة المزيد من اللاجئين إلى أوطانهم. وبحسب تعبيرها فقد كان من الممكن ملاحظة ذلك حتى قبل سقوط الأسد ، على الرغم من نقص الأيدي العاملةـ وتؤكد "توجد حاجة ملحة في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي لعمل شيء لمواجهة نقص الأيدي العاملة ومحاربة استغلال العمال، وخاصة العمال المهاجرين غير النظاميين. وعندما تكون المطالبة بإعادة اللاجئين إلى أوطانهم قوية إلى هذا الحد الآن، فإنَّ ذلك يهدد بأن يلقي بظلاله على الأولويات الأخرى"، كما قالت أناستازيا كاراتساز في حوار مع DW.
عقبات أمام الاندماج والانخراط في سوق العمل
وما من شك في أنَّ دمج مثل هذا العدد الكبير من اللاجئين - في حالة ألمانيا 972 ألف لاجئ سوري - خلال مثل هذه الفترة القصيرة كان بطبيعة الحال تحديًا كبيرًا. وبالرغم من ذلك فإنَّ الباحث فيليب ياشكه المختص في سوق العمل بمعهد نورنبيرغ لأبحاث سوق العمل والتوظيف (IAB) يعتقد أنَّ الجهود المبذولة في ألمانيا "نجحت بشكل أفضل بكثير من المتوقع".
وحول ذلك قال فيليب ياشكه في حوار مع DW إنَّ اللاجئين "غادروا سوريا بشكل مفاجئ. والكثيرون منهم تعرضوا لصدمات نفسية خلال هروبهم. وعندما وصلوا لم يكونوا مستعدين كثيرًا لسوق العمل الألمانية وواجهتهم الكثير من العقبات المؤسساتية".
ومن هذه العقبات بحسب تعبيره انتظار قرارات اللجوء لفترات طويلة، وتعلُّم اللغة الألمانية، وإكمال الدراسة أو كذلك الحصول على مؤهلات معترف بها قبل الدخول إلى سوق العمل، والذي يستغرق عدة سنين. ولذلك فإنَّ آفاق العمل باتت تقتصر لدى غالبية اللاجئين على مهن تحتاج لمؤهلات قليلة.
وتشير تحريات "معهد أبحاث سوق العمل والتوظيف" إلى أنَّ أكثر من 90 بالمئة من السوريين كانوا يعملون قبل لجوئهم في مهن تتطلب في ألمانيا حصولهم على تكوين مهني أو حتى شهادة جامعية. وبعد وصولهم إلى ألمانيا، عمل نحو ثلثهم في البداية في مهن تحتاج مؤهلات قليلة. وقد استمر ربعهم بعد ستة أعوام في العمل ضمن هذه الأوضاع المهنية.
معدلات بطالة مرتفعة بين اللاجئين السوريين
وبحسب تقرير نشره في منتصف كانون الأول/ديسمبر "معهد أبحاث سوق العمل والتوظيف" فقد بلغ في أيلول/سبتمبر 2024 عدد السوريين العاملين في ألمانيا نحو 287 ألفًا. وانخفض متوسط معدل العمل لديهم لأنَّ الكثيرين منهم وصلوا في الآونة الأخيرة فقط وما يزالوا في المرحلة الأولى من عملية الاندماج.
بيد أنَّ فرص اللاجئين في العثور على عمل تزداد مع بقائهم فترة أطول في ألمانيا. فقد كشف "معهد أبحاث سوق العمل والتوظيف" أنَّ نحو 61 بالمائة من اللاجئين السوريين وجدوا عملًا بعد سبعة أعوام من وصولهم.
وصحيح أنَّ معدل البطالة الرسمي لدى السوريين يبلغ 37 بالمائة ويعتبر أعلى بكثير من معدلها العام في ألمانيا بنسبة 5.9 بالمائة (تشرين الثاني/نوفمبر 2024)، ولكن ذلك يعود إلى عوامل ثقافية وعوامل أخرى. مثلًا عدد السوريات غير العاملات أعلى بكثير من عدد الرجال السوريين العاطلين عن العمل. والكثير من النساء السوريات كن ربات بيوت قبل هروبهن من سوريا، وبالتالي لم يكن بوسعهن اكتساب أية خبرات مهنية. والكثير من النساء السوريات لديهن أطفال صغار، وهذا يمنعهن كثيرًا من دخول العالم المهني بسبب دورهن الأسري التقليدي.
وضمن هذا السياق تقول أناستازيا كاراتساز، من معهد "المجموعة السياسية الأوروبية"، إنَّ التمييز و"الصعوبات المستمرة في الاعتراف بالمهارات والمؤهلات" تشكل مشكلات أخرى، وتشير في ذلك إلى أوروبا ككل.
السوريون يملؤون فجوات في بعض المهن
وتعمل في ألمانيا نحو 30 بالمائة من النساء السوريات اللاجئات في قطاع الخدمات الاجتماعية والثقافية، بما فيه التعليم ورعاية الأطفال. وعشرهن يعملن في محلات البيع بالتجزئة. ويعمل أكثر من خمس اللاجئين الذكور في قطاع الخدمات اللوجستية وفي الإنتاج. وكذلك يعمل السوريون كثيرًا في مجال الضيافة والمطاعم والرعاية الصحية والبناء، بحسب "معهد أبحاث سوق العمل والتوظيف".
"يسود في هذه القطاعات نقص خطير في الأيدي العاملة"، حيث يوجد طلب مرتفع على العمال وعرض منخفض نسبيًا من الأيدي العاملة، كما يقول الباحث فيليب ياشكه: "لذلك فإنَّ ألمانيا ستخسر في الحقيقة عندما يغادر هؤلاء الأشخاص".
وحول السؤال عن عدد الراغبين في العودة الآن، أظهر استطلاع حديث أجراه "معهد أبحاث سوق العمل والتوظيف" أنَّ أكثر من 90 بالمائة من اللاجئين المولودين في سوريا وجاؤوا إلى ألمانيا بين عامي 2013 و2019 قالوا إنَّهم يريدون البقاء في ألمانيا بشكل دائم. ولكن من الممكن أن يتغير ذلك بسبب التطورات الأخيرة في سوريا.
ويقول فيليب ياشكه إنَّ "نحو 40 بالمائة منهم يعيشون هنا منذ عام 2015 أو منذ فترة أطول. ويكسبون قوتهم هنا، ويُقيمون شبكات اجتماعية، والكثيرون منهم أحضروا عائلاتهم معهم، ولذلك فعلى الأرجح أن يبقى الكثيرون منهم هنا" في ألمانيا.
الحديث عن الإعادة ما يزال سابقًا لأوانه؟
أما الذين لم يندمجوا في أوروبا أو لم يجدوا عملًا خلال وقت معقول، فمن الممكن دفعهم إلى العودة أو ربما هم أصلًا يريدون العودة. ومن الممكن يكون الكثيرون غيرهم مهتمين بإعادة بناء الاقتصاد السوري بعد نحو 14 عامًا من الحرب الأهلية. لقد قال مؤخرًا عضو البرلمان الألماني عن الحزب المسيحي الديمقراطي ينس شبان لقناة "إن تي في": يجب أن يُقدَّم لهم دعم حكومي من أجل إعادتهم، وتحدث عن منحة لكل شخص مبلغ ألف يورو كمساعدة للعودة واستخدام طائرات مستأجرة من قبل الدولة.
وبينما تستمر النقاشات حول هذا الموضوع، يحذر فرانك فيرنيكه، وهو رئيس نقابة عمال الخدمات الألمانية فيردي، من عملية إعادة واسعة النطاق. ويأمل في أن "يتعامل الوزراء مع الوضع بهدوء".
وفي حوار مع وكالة الأنباء الألمانية، قال فرانك فيرنيكه: من المهم أن تعمل الحكومة الانتقالية السورية أولًا على خلق "ظروف ديمقراطية بقدر الإمكان"، تراعي احتياجات المجموعات العرقية والدينية الكثيرة في سوريا.
وعلى المستوى الأوروبي، تخشى المحللة أناستازيا كاراتساز من أن يؤدي المزاج المعادي للمهاجرين في العديد من دول الاتحاد الأوروبي إلى رد فعل غير محسوب، وتحذِّر من القرارات المتسرعة.
وتقول: "يجب اتخاذ تدابير تضمن إجراء عمليات الإعادة بطريقة منظمة تنظيمًا جيدًا". ويجب الاعتماد على النتائج والبيانات المتعلقة بدور اللاجئين في سوق العمل.