كأنها «بلاد ما بين الصدمتين»، صدمةُ «بيروتشيما» التي ما زالت تداعياتُها ماثلةً بقوةٍ على البشر والحجر في بيروت التي لم يجفّ بعد دمُها ولا دموعُها، وصدمةُ ما بعد التفجير المُزَلْزِل واستقالة حكومة الرئيس حسان دياب وما يشهده مسارُ استيلاد البديل الإنقاذي من سلوكياتٍ ومفارقاتٍ تعكس المضيّ، وعلى أشلاء العاصمة، في تعميق «الحفرة» التي سقطت فيها البلاد مع الانهيار المالي وانكشافها على «التطاحُن» الأميركي - الإيراني.
هكذا تختصر أوساطٌ واسعة الاطلاع المشهد السوريالي في بيروت، حيث يحتدم «سباق البَدَل» بين النكبات المتداخلة... من «كورونا» الذي استوجبت قفزاتُه المثيرةُ للذعرِ إعادةَ البلاد إلى خلف «أسوار» الإقفال الجزئي (ابتداءً من اليوم) لأسبوعين لتنظيم «العبور» في الكارثة... مروراً بالواقع المالي - الاقتصادي - المعيشي الذي زاده تفجير 4 أغسطس دراماتيكيةً وسط أرقام مُرعِبة أعلنتْها لجنةُ الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا (إسكوا) وخلاصتها أنَ نصفَ سكانِ لبنانَ باتوا يعيشون تحت خط الفقر (أقل من 14 دولاراً في اليوم)، وصولاً لإعلان مصدر رسمي في مصرف لبنان أنه لا يستطيع مواصلة دعم الوقود والقمح والدواء لأكثر من 3 أشهر... وليس انتهاءً بالواقع السياسي المفتوح على أفق قاتِمٍ في ظلّ وقوع ملف تشكيل الحكومة في قبضة «لحظةِ حقيقةٍ» عنوانها أن البلد يحوّل أنقاضاً، على كل المستويات، بفعل استرهانه لحروب صغيرة داخلية وأخرى خارجية كبرى، وهو ما تحاول الطبقة السياسية التعمية عنه بإحالةِ الإيقاع «السلحفاتي» في مسار التأليف على الاستقطاب الإقليمي - الدولي من فوق رأس لبنان وعليه.
واستوقفت الأوساط بلوغ منسوب «تَحَلُّل» المؤسسات والتسليم بإدارة الخارج للعبة أعلى درجاته، مستدلّة على ذلك من المجاهرة بأن الأطراف السياسية المنهمكة في درس مبادرةٍ يتولى رئيس البرلمان نبيه بري تدوير زواياها، ينطلقون من ورقةٍ فرنسية من صفحتيْن سُلّمت لعدد من القيادات اللبنانية وهي حصيلة الاتصالات التي أجراها الرئيس ايمانويل ماكرون معهم إبان زيارته لبيروت في 6 أغسطس وتتمحور حول قيام «حكومةِ مَهمّة» gouvernement de mission لتنفيذ برنامج إصلاحي يشمل القضاء والأمن والمؤسسات العامة ومصرف لبنان والتدقيق المالي في حساباته والكهرباء والاتصالات.
وفي حين يؤشر المسعى الفرنسي والاصطفاف الداخلي وراءه، بمعزل عما إذا سيصل إلى خواتيم سعيدة أم لا، إلى أن الوضع صار في أحضان «تدويلٍ» أعاد صوغ التوازنات، فإن الأوساط أبدت حذراً حيال رسْم أي توقعات لعملية تشكيل الحكومة «التي يتكرّس فيها الربْط الكاسر لتوازنات (الطائف) بين تكليف رئيس الحكومة وبين الاتفاق المسبق على شكل الحكومة وحتى برنامجها (وفق ما نُقل عن فحوى اتصالات بري)»، والتي تبقى رهن أسئلة كبرى أبرزها:
هل يقبل الرئيس سعد الحريري، الذي يفضّل الثنائي الشيعي (حزب الله) - بري عودته لرئاسة الوزراء، بحكومةٍ من خارج شروطه التي استقال على أساسها بعيد انتفاضة 17 أكتوبر، أي تشكيلة مستقلّين بعيداً من أي محاصصة وتكون يده طليقةً فيها؟
وهل يقبل بمبدأ ترؤس أي حكومةٍ من دون ضمانات خارجية بأن وجوده على رأس السلطة التنفيذية سيُقابَل بوضع البلاد على سكة الإنقاذ على «حمّالة» الدعم الدولي؟
وهل يسير بالعودة إلى واجهة الحُكم بمعزل عن تنفيذ «حزب الله» الحْكم في جريمة اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري وتسليم المُدان سليم عياش؟
وهل هو في وارد أي «تعايُش» ولو ضمني مع الحزب تحت سقف حكومة واحدة؟
وهل «حزب الله» يمكن أن يسلّم بغير حكومة وحدة وطنية، كخطوةٍ إلى الوراء من باب استيعاب الضغوط الخارجية والداخلية وتمرير العاصفة؟
وهل الحزب مستعدّ لتسهيل الإصلاحات التي تَعتبر واشنطن خصوصاً أنها «الباب الخلفي» لتقويض ركائز نفوذه في الداخل والإقليم (اقتصادياً وأمنياً وعسكرياً)؟
وهل فريق الرئيس ميشال عون يمكن أن يسير بما تردّد عن أن بري طرَحه حول حكومةٍ عشرية من اختصاصيين مشهود لهم بالكفاءة وما سيعنيه ذلك خطوات إلى الخلف للعهد وفريقه؟
وهل المجتمع الدولي بات يربط مهمة الإنقاذ بـ«أًصل» وضعية الحزب خارج الدولة، وهل بتُّ هذه المسألة ممكن خارج التسوية الكبرى مع إيران؟
مجمل هذه الأسئلة لم يحجب التوقعات التي سادت بأن يتم أقلّه تكليف رئيسٍ للحكومة قبل موعد زيارة ماكرون الثانية لبيروت مطلع سبتمبر للمشاركة في احتفالية مئوية لبنان الكبير، تفادياً لخسارة «الوسيط الناعم» الفرنسي وكي لا يصبح الائتلاف الحاكم وجهاً لوجه أمام «الكاوبوي» الأميركي، وسط توقُّف الأوساط عند التسليم حدّ «التفاخُر» سواء بمدّ الخيوط والخطوط مع عواصم غربية، كما فعل «حزب الله» بكشفه عن أن رئيس كتلته محمد رعد التقى ماكرون مرتين (إحداهما مع سائر رؤساء الكتل في قصر الصنوبر) إبان محطته في بيروت «ونحن لم نكشف سابقاً عن أحدهما»، أو بتَقَفّي مواقف خارجية تعلن صراحة أو تُفَسَّر على أنها لا تمانع قيام حكومة يشارك فيها «حزب الله»، بما يعني دعْم حكومة وحدة وطنية تشكّل واقعياً وثبةً إلى ما قبل زمن الثورة التي لم تنطفئ أصلاً وبات مطلبها بالتغيير مرتكَزاً لدعوة عواصم القرار خصوصاً واشنطن لحكومةٍ مستقلة.
وفيما لفتت تغريدةٌ للرئيس عون قال فيها «أدعو وأسعى لمشاركة كفاءات تمثل صوّت الشارع المنتفض في الحكومة الجديدة» ما أثار علامة استفهام حول إذا كان يُقصد منها تصوُّرٌ لحكومة تكنو - سياسية، في موازاة الكشف عن اتصال جرى أمس بين الحريري ونائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف الذي أكد «المواقف الروسية الثابتة في دعم سيادة لبنان واستقلاله واستقراره الداخلي»، حضر في بيروت بقوة موقفٌ للديبلوماسي الأميركي ديفيد هيل، حيث أكد «أن الإدارة الأميركية تركّز على الإصلاحات والتوصل لتشكيل حكومة قادرة فعلياً على معالجة نظم الحكم المختلّة وظيفياً والقائمة منذ سنوات والتي شارك فيها (حزب الله) بدرجة كبيرة بالمناسبة»، ومعتبراً «ان الحزب يتعزز بفضل هذا الاختلال الوظيفي ويساهم فيه لأنه يتيح له التصرف كدولة داخل الدولة».
وإذ قال رداً على سؤال «تمكنا من التعامل في السابق مع حكومات ضمت مكوّن (حزب الله) وسندرس الظروف إذا تكرّر الأمر، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ما إذا كانت حكومة مماثلة قادرة فعلياً على إجراء الإصلاحات»، أضاف: «تأتي الإصلاحات بعكس مصالح كل قادة الوضع الراهن، بما فيهم (حزب الله) الذي يُعتبر اليوم جزءاً كبيراً من المشكلة. تم إحراق دمية بشكل نصر الله في ساحة الشهداء يوم الجمعة وأظن أن ذلك يشير إلى أن الناس بدأوا يدركون أن (حزب الله) أيضاً جزء من النظام الفاسد».
وجزم بأنه لن «تكون هناك أي أموال لحكام يستخدمون النظام لإثراء أنفسهم وتجاهل المطالب الشعبية، وهذه الحقبة انتهت. لقد باتوا في أسفل القعر وأعتقد أن القيادة ستقدّر واقع أن وقت التغيير قد حان».