د. سارة ضاهر - رئيسة مجمع اللغة العربية في لبنان
لطالما اعتُبر المثقف في المجتمعات مرآةً تعكس واقعها، لكن في لبنان، كان المثقف أكثر من مجرد مرآة؛ كان صوتاً، وضميراً، وأحياناً سلاحاً في وجه الطغيان والخراب. في بلدٍ مزّقته الحروب الأهلية والاعتداءات الخارجية، لم يكن المثقف اللبناني مجرد مراقب للأحداث، بل فاعلاً رئيسياً في إعادة بناء الهوية الوطنية، وسط فوضى الطوائف والانقسامات السياسية.
لماذا يختلف المثقف اللبناني؟
ما الذي يجعل المثقف اللبناني مميزاً في زمن الحرب؟
الجواب بسيط ومعقّد في آنٍ معاً: لبنان بلد صغير جغرافياً، لكنه كبير ثقافياً بتعدد طوائفه، وأحزابه، وارتباطاته الخارجية. هذا التنوّع، الذي كان يفترض أن يكون مصدر قوة، تحوّل في لحظات الأزمات إلى ساحة صراع مفتوح. وهنا، وجد المثقف نفسه في اختبار وجودي؛ إما أن يُسهم في تعزيز الانقسام، أو أن يتصدّى له ويعمل على بناء وعي جمعي جديد.
الهوية الثقافية: مقاومة الطمس
في خضم الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، عندما كانت شوارع بيروت تُقسم بالحواجز الطائفية، كانت الصحف والمجلات تصدر يومياً، وكأن الكلمة وحدها قادرة على كسر الحصار. لم تكن هذه الصحف مجرد نشرات إخبارية، بل فضاءات فكرية لمثقفين مثل غسان تويني وأنسي الحاج، الذين رأوا في الكتابة عملاً مقاوماً.
في إحدى افتتاحياته الشهيرة في جريدة النهار، كتب غسان تويني:
“أوقفوا الحرب… ودعونا نحارب بالكلمة.”
بهذه الكلمات، تحدّى منطق السلاح، مؤكداً أن الثقافة ليست ترفاً في زمن الحرب، بل ضرورة للحفاظ على الهوية الوطنية في وجه الانهيار.
الأدب في مواجهة الطائفية
الأدب اللبناني لم يكن يوماً محايداً. ففي زمن الحرب، تحوّلت الرواية والشعر إلى منصات لمواجهة الطائفية.
في روايتها حجر الضحك، تناولت حنان الشيخ شخصية شاب يعيش وسط الانقسامات الطائفية في بيروت. الرواية لم تكن مجرد سردٍ لواقع الحرب، بل نقداً لاذعاً للانقسامات التي تفرّق المجتمع، وكأنها تقول للقارئ: “الحرب ليست فقط في الخارج؛ إنها أيضاً في الداخل، في أعماقنا.”
أما الياس خوري، فقد جعل من رواياته مثل باب الشمس ويالو، توثيقاً أدبياً لمعاناة الحرب والنزوح. خوري لم يكتب عن الطوائف، بل عن الإنسان اللبناني الذي ضاع بين الهويات المتصارعة، محاولاً أن يجد لنفسه مكاناً في وطن ممزق.
المثقف والمقاومة: سلاح الكلمة
لم يكن المثقف اللبناني بعيداً عن المقاومة الفعلية للاحتلال الإسرائيلي.
في الجنوب اللبناني، حيث الاحتلال الإسرائيلي استمر لعقود، برز شعراء مثل حسن عبدالله وخليل حاوي. الأخير، الذي انتحر يوم اجتياح بيروت عام 1982، شكّل موته صدمة للمشهد الثقافي اللبناني. انتحاره لم يكن استسلاماً، بل احتجاجاً صارخاً ضد العنف والخراب الذي أصاب بيروت، المدينة التي أحبها وكتب عنها.
كتب حاوي في إحدى قصائده:
“بيروت تموت؟
لا، بيروت لا تموت…
بيروت تنتظر ميلادها الجديد.”
المهرجانات الثقافية: تحدي الدمار
ربما يبدو من الغريب أن نتحدث عن المهرجانات الثقافية في زمن الحرب، لكن هذا ما حدث في لبنان.
في عزّ الحرب الأهلية، استمرت مهرجانات بعلبك الدولية في تقديم عروضها، متحديةً القصف والانقسامات. كانت تلك المهرجانات رسالة إلى العالم بأن لبنان، رغم الدمار، ما زال حيّاً بثقافته وفنه.
فيروز، التي غنّت في بعلبك رغم كل شيء، تحوّلت إلى أيقونة للأمل. بصوتها الذي ملأ الساحات، كانت تقول للبنانيين: “هناك ما يستحق الحياة في هذا الوطن.”
التحدي النفسي والاجتماعي: المثقف كمعالج للذاكرة الجماعية
الحرب لا تدمّر المدن فقط؛ بل تترك جروحاً عميقة في النفوس. هنا، لعب المثقف اللبناني دور المعالج النفسي للمجتمع. من خلال أعمالهم الأدبية والفنية، حاولوا إعادة بناء الذاكرة الجماعية، ومداواة الجروح النفسية التي خلفتها الحرب.
كتب رئيف خوري:
“الأدب ليس وسيلة للهروب من الواقع، بل هو وسيلة لفهمه، ومن ثم تغييره.”
بهذا الفهم، حاول الأدباء والمثقفون إعادة صياغة الذاكرة الجماعية للبنانيين، بعيداً عن روايات الطوائف والأحزاب، نحو رواية وطنية جامعة.
المستقبل: المثقف كصانع للتغيير
اليوم، وبعد سنوات من الحروب والأزمات، يواجه المثقف اللبناني تحديات جديدة. لم يعد الصراع عسكرياً فقط، بل أصبح اقتصادياً واجتماعياً. ومع ذلك، يبقى المثقف اللبناني أمام مسؤولية كبيرة:
• إعادة تعريف الهوية الوطنية بعيداً عن الطائفية.
• نشر ثقافة الحوار والسلام.
• الحفاظ على التراث الثقافي في وجه العولمة والاندثار.
كما قال جبران خليل جبران:
“الوطن ليس ما نملك، بل ما نحميه بما نؤمن به.”
بهذا الإيمان، سيبقى المثقف اللبناني حارساً للهوية، وصانعاً للتغيير، مهما اشتدت الأزمات.