منير الربيع - المدن
مرحلة جديدة يمكن للبنان أن يدخلها بعد الحرب وتطوراتها، وخلاصتها في كلام الرئيس نبيه بري ومعاونه السياسي، حول رفض إبقاء لبنان كساحة، ورفض منطق التخوين، وتعزيز منطق الدولة.. وأيضاً، في كلام أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم، والذي اختصره بخمس نقاط، هي: إعادة الإعمار، إعادة تشكيل السلطة وانتخاب رئيس للجمهورية، الحفاظ على الوحدة الوطنية تحت سقف اتفاق الطائف، والحفاظ على وجود حزب الله ودوره سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. أما النقطة الأهم فهي الخامسة، وقال فيها: "سنعمل على تعزيز قدرة لبنان الدفاعية، وستكون المقاومة جاهزة لمنع العدو من استضعاف لبنان بالتعاون مع الجيش اللبناني". هذه النقطة التي تفتح الطريق أمام مسار جديد حول تعزيز الدور السياسي للحزب على حساب الدور العسكري، وتؤسس لبحث جدي في الاستراتيجية الدفاعية، أو إيجاد آلية لتغيير الوضعية القائمة حالياً إلى وضعية جديدة.
يأتي هذا الموقف بما يحمله من تحولات، بنتيجة قراءة واقعية للتطورات والأحداث وحجم الضغوط الدولية حول تغيير الوقائع العسكرية في لبنان، وخصوصاً في الجنوب، الذي سيكون الحضور الأكبر فيه للجيش اللبناني وفق المطالب الدولية وبناء على موافقة حزب الله. وصل حزب الله إلى قناعة أن المرحلة الحالية تقتضي الواقعية أمام الموج الدولي المرتفع. ولذلك يعزز الحزب من الطروحات السياسية لمرحلة ما بعد الحرب، مع التأكيد بأن الحزب دعم فلسطين في كل مسيرته عسكرياً، وسيستمر في دعمها بطرق أخرى. وأعلن قاسم الموافقة على الاتفاق ومضمونه ورحب بدخول الجيش إلى الجنوب. وهذا تأكيد على التعاطي بواقعية مع التغيير المفترض.
في كل الأحوال، تبقى العبرة في التنفيذ وفي الآلية التطبيقية التي ستعتمد لنص الاتفاق، إذ على مدى عقود، أثبتت كل التجارب أن القرارات الدولية لا تُطبق، وأن الاتفاقات تبقى عرضة للخروقات الكثيرة. وهذا ما يطرأ على الاتفاق الذي أوقف الحرب بين حزب الله وإسرائيل. سريعاً، أرادت تل أبيب إظهار بعض القوة لديها في مواصلة انتهاك الاتفاق بما يرضي الوضع الداخلي الإسرائيلي، في ظل النقمة الكبيرة سياسياً وشعبياً على "وقف النار" من دون تحقيق الأهداف. خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليبرر دخوله في هذا الاتفاق، معتبراً أنه بالإمكان أن يفشل سريعاً. وهو أمر كرره مسؤولون آخرون، بينهم رئيس الأركان وقائد المنطقة الشمالية.
التباسات واعتداءات
قبل الدخول في النقاش البارد والهادئ لنص الاتفاق، لا بد من الإشارة إلى الاختلافات الجذرية في مقاربته. وذلك بنتيجة التباسات كثيرة تعتريه. هذه الالتباسات هي التي تدفع الإسرائيليين إلى إبراز "يدهم العليا" من خلال خرقه. وقد شنّ غارة يوم الخميس شمال نهر الليطاني، لإثبات "حرية الحركة" التي جرى الاتفاق عليها مع الولايات المتحدة الأميركية. وتعمّد الإسرائيليون تسريب خبر التنسيق مع واشنطن مسبقاً لشنّ هذه الضربة. ثانياً، يبرز الإسرائيليون يدهم العليا من خلال استمرار وجودهم في عدد من قرى الجنوب، ومن خلال السيطرة بالنار على قرى أخرى ومنع السكان من العودة إليها. إضافة إلى تكرار الاعتداءات على المواطنين اللبنانيين بطرق مختلفة. وهو ما قد يجعل الاتفاق قابلاً للسقوط.
لكن ما يجري أيضاً، لا ينفصل عن مشاهد سابقة حصلت أيضاً بعد دخول القرار 1701 حيز التنفيذ في 14 آب من العام 2006. حينها، ما بعد وقف الحرب، واصل الإسرائيليون انتهاكاتهم على مدى أيام عديدة، وحاولوا تنفيذ عملية إنزال في البقاع يوم التاسع عشر من آب 2006، فحصل اشتباك بينهم وبين عناصر حزب الله. إثرها، حصلت ضغوط دولية كبيرة، وتواصل إيراني أميركي أفضى إلى وقف هذه الممارسات من قبل الإسرائيليين.
قراءات كثيرة
الممارسات الميدانية لا تنفصل عن الممارسات السياسية أو الإعلامية، والتي ينتج عنها سجال مستمر حول صيغة وآلية تفسير نص الاتفاق. إذ أن إسرائيل تريد تفسيره وفق مصلحتها، وكذلك يفعل حزب الله.
لبنانياً، ينعكس الانقسام السياسي العمودي بشكل مباشر على كل صيغ تفسير نص الاتفاق، فحزب الله يعتبر نفسه أنه ضَمِن هيكليته العسكرية والأمنية والسياسية، وأنه حفظ حقه بالمقاومة، طالما أن نص الاتفاق يشير إلى جنوب الليطاني، ولا يتحدث عن نزع السلاح على كل الأراضي اللبنانية. في المقابل، خصوم الحزب يرون العكس ويقدمون التفسيرات التي تتلاءم مع مصلحتهم السياسية.
بالعودة إلى القراءة الهادئة لنص الاتفاق، ففي المقدمة يشير بوضوح إلى القرار 1701 والذي يستند أيضاً على قرارات دولية أخرى، والمقصود بها القرار 1559، وإن لم يتم ذكره بالإسم. لكن المقدمة تشير إلى ضرورة نزع كل الأسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة اللبنانية، وأن ينحصر وجود السلاح بيد القوى الشرعية والتي تم تسميتها بالإسم، وهي الجيش اللبناني، قوى الأمن الداخلي، الأمن العام، أمن الدولة، الجمارك، والبلديات. في البنود الأخرى من نص الاتفاق، حيث السجال يستمر ويتفاعل، فإن البند الأول يشير إلى عدم سماح الدولة اللبنانية لأي جهة، حزب الله أو غيره بتنفيذ أي عملية ضد إسرائيل. هذا ما سيدفع خصوم حزب الله للخروج والحديث عن عدم جدوى الاستمرار في حيازة السلاح، طالما أنه لن يكون مخصصاً لمحاربة إسرائيل. في المقابل فإن الحزب سيردّ بأن السلاح هو لحماية لبنان من أي اعتداءات ولتحرير الأرض.
السلاح والحدود
بند آخر يتحدث عن ضرورة ضبط الحدود والمعابر والسيطرة عليها من قبل القوى الشرعية، لمنع دخول السلاح إلا المخصص للدولة اللبنانية. هنا تتضارب التفسيرات، خصوصاً أن معارضي الحزب يفسّرون هذا البند بأنه فرض رقابة من قبل الدولة اللبنانية والمجتمع الدولي على كل الحدود البرية والبحرية والجوية، بينما حزب الله يضعه في خانة القرار 1701 والذي لم تلتزم به إسرائيل.
أحد البنود يشير إلى عدم السماح بوجود أي سلاح أو مصانع أسلحة على كل الأراضي اللبنانية، إلا تلك التي تنتجها الدولة اللبنانية، وهنا يفسّر خصوم الحزب هذا البند باعتباره يحمل إشارة واضحة إلى ضرورة مكافحة وجود أسلحة حزب الله في كل شمال نهر الليطاني، وعلى كل الأراضي اللبنانية. والأمر نفسه ينطبق على الصيغة التي اعتمدت حول ضرورة تفكيك البنى التحتية ومخازن الأسلحة والصواريخ العائدة للحزب، إنطلاقاً من جنوب نهر الليطاني. فالحزب يعتبر أن الاتفاق يذكر فقط جنوب النهر، ولا يأتي على ذكر المناطق الأخرى، بينما المعارضون يعتبرون أن "عبارة" انطلاقاً من نهر الليطاني تعني البدء بتفكيك الأسلحة في جنوب النهر، أي الانطلاق من هناك والاتجاه نحو شمال الليطاني.
موازين القوى
طبعاً، أي قرار دولي أو اتفاق، سيكون خاضعاً لمعايير مختلفة ومتناقضة في آليات تفسيره، وهو ما يختبره لبنان منذ سنوات، مع الإشارة إلى أن إسرائيل لم تلتزم في تطبيق أي قرار منذ صدور القرار 181، إلى القرارين 242، و425، وصولاً إلى القرار 1701. كذلك فإن القرارين 1559، و1680 لم يتم تطبيقهما.
وهذا يقود إلى خلاصة وحيدة، أن الكثير من القرارات الدولية ليس بالضرورة أن تطبق حرفياً، بل ما يتحكم بتطبيقها أو آلية التطبيق هو موازين القوى السياسية، سواء داخل لبنان أو على المستويين الإقليمي والدولي.
في هذا السياق، سيشهد لبنان الكثير من التجاذب الداخلي والخارجي، حول آليات تطبيق الاتفاق إذا صمد. ففي حال أراد الإسرائيليون والأميركيون المضي قدماً في ضغوطهم الكثيفة على لبنان ودول المنطقة، لا سيما الدول التي تتمتع فيها إيران بنفوذ كبير، وبقي العنوان هو تقويض نفوذ إيران.. فلا بد من انتظار الكثير من الضغوط لاحقاً في مجالات مختلفة، أمنية وعسكرية، سياسية، واقتصادية، وصولاً إلى تحميل الدولة اللبنانية مسؤولية عدم تطبيق الاتفاق. أما في حال تمكنت العلاقات الإيرانية الأميركية من تحقيق تقدم على مستوى التفاهمات حول الملف النووي وملفات المنطقة، فيمكن لهذا الاتفاق أن يبقى قائماً بتفسيرات ملتوية لآليات تطبيقه، وتتكرر بموجبه تجربة ما بعد العام 2006.