في مشهد يتكرر بمرارة على مدار سنوات الصراع، تتحول مدارس لبنان مجددًا إلى مراكز إيواء تستقبل الآلاف من العائلات النازحة، التي فرت بأرواحها من ويلات القصف الإسرائيلي على الجنوب، البقاع، والضاحية الجنوبية. تلك المؤسسات التي كانت منارات للعلم، تغصّ اليوم بأشخاص أرهقهم الخوف والتشريد، حيث باتت الفصول الدراسية تحل محل المنازل المهدمة، وتتحول المكاتب التعليمية إلى أسِرّة نومٍ مؤقتة.
الهجوم الوحشي الذي استهدف مناطق واسعة، أجبر مئات الآلاف على ترك حياتهم اليومية خلفهم والهرب إلى المجهول، لتكون وجهتهم الأولى مراكز الإيواء المؤقتة التي فتحتها الدولة على عجل. ومع تزايد الأعداد، بلغ عدد المراكز المفتوحة 777 مركزًا، موزعة بين المدارس الرسمية، المجمعات التربوية، المعاهد المهنية، وحتى بعض المراكز الزراعية. هذه الأماكن، التي كانت رمزًا للتنمية والأمل بمستقبل أفضل، أضحت اليوم ملاذات غير متوقعة لمن يواجهون قسوة التهجير.
قمنا بزيارة ميدانية لبعض مراكز الإيواء في مناطق طرابلس وعكار، حيث التقينا نازحين من الجنوب، عائلات مكلومة، وأطفالاً جافى النوم أعينهم من شدة الصدمة والخوف. مشاهد تختصر كل الألم، فتلك العائلات تركت وراءها بيوتها التي احتضنت كل ذكرياتهم، ومدارس أطفالهم التي كانت بصيص أمل لمستقبلهم، وأعمالهم التي كانت مصدر رزقهم الوحيد. لقد غادروا كل شيء دون أن يحملوا معهم سوى الأسى والحسرة.
على باب غرفة صغيرة في مركز إيواء بمنطقة القبة مدرسة الفرابي، تقف فاطمة، والدمع في عينيها، تتأمل الحياة التي لم تعد تشبه ما عرفت. سبعة أفراد من عائلتها يتكدسون في مساحة ضيقة، تضيق عليهم الأرض بما رحبت. الغرفة، التي تكاد تخلو من أدنى مقومات الحياة، أصبحت ملاذاً للعائلة بعد أن دمّر القصف الإسرائيلي منزلهم. في الداخل، اختلطت مشاعر القلق والخوف بالحرمان، فيما افترش آخرون باحة المركز، يتقاسمون فراشاً ممزقاً، ينام عليه أكثر من شخص في محاولة للبقاء.
بصوتٍ متهدج، تخبرنا فاطمة عن يومياتها المؤلمة في هذا المكان: "نعيش هنا حياة لا توصف. نأكل، ننام، ونطبخ في نفس الغرفة. لا غاز لدينا للطهي، ولا حتى مكان لغسل ملابسنا أو للاستحمام. الحشرات تملأ المكان، والخوف من انتشار الأمراض يؤرقنا." تتحدث فاطمة وكأن الكلمات تخرج محملة بثقل لا تستطيع تحمله وحدها، وكأن قلبها ينفطر مع كل كلمة تنطقها.
وفي زاوية أخرى من المركز، تجلس حوراء، تغالب دموعها وهي تستذكر تفاصيل حياتها التي غادرتها على عجل. بصوت مبحوح يعلوه الألم، تقول: "لم أتخيل يوماً أنني سأترك بيتي الذي بناه أبي بدموعه وجهده. أشتاق لكل شيء... للجدران التي كانت تحتضنني، لرائحة الأرض التي كنت أمشي عليها، ولشجرة الغاردينيا التي زرعتها ولم أتمكن من رؤيتها تتفتح." حوراء التي هُجرت قبل عشرة أيام، تعيش اليوم في مأساة حقيقية، وسط ظروف قاسية تحرمها حتى من أبسط الحقوق الإنسانية. تتابع حوراء بغصة: "الماء هنا ينقطع لساعات طويلة، وإذا أردنا استخدامه علينا أن نقتصد فيه. حتى في قضاء الحاجة، لم يعد لدينا خصوصية، الجميع يعرف متى نذهب للحمام. لم نعد نملك حتى حرية البكاء بعيداً عن أعين الآخرين."
وفي عكار، في منطقة ببنين، لم يكن مصير زينب، أفضل حالاً. بعدما تركت "جنوبها الأخضر" بكل ما تحمله تلك الأرض من ذكريات وأمان، سلكت طريقاً طويلاً هرباً من جحيم القصف، لتصل إلى مركز إيواء ظنت أنه سيكون ملاذاً آمناً، لكنها وصلت إلى ما تصفه بـ"إيواء الجحيم". بصوت مبحوح، مملوء بالتعب والقلق، تروي زينب: "هذا المكان لا يصلح للبشر. الكهرباء لا تكاد تُذكر، والماء بالكاد يصلنا لدقائق معدودة. الحياة هنا أشبه بما قبل الحضارة."
نساءٌ ورجالٌ وأطفالٌ وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة مصير مجهول، حيث لا يعرفون متى سيعودون إلى منازلهم – أو إن كانوا سيعودون أصلاً. وفي ظل أوضاع اقتصادية خانقة تمر بها البلاد، تتضاعف المعاناة. الأطفال الذين كانوا قبل أسابيع معدودة يحلمون بمقاعد دراستهم، اليوم يجلسون في نفس الفصول، ولكن كلاجئين، يتشاركون المساحة مع أناس لا يعرفونهم، ومعاناة لم يكن لهم يدٌ فيها.
المشهد ليس فقط صورة لمعاناة لحظية، بل هو تجسيد لفقدان الأمان والكرامة. كيف يمكن لمجتمع بات يرزح تحت وطأة أزمات اقتصادية وإنسانية خانقة، أن يتحمل هذا العبء الإضافي؟ وكيف للدولة التي تعاني أصلاً من ضعف الإمكانيات والبنية التحتية أن تؤمّن للنازحين الحد الأدنى من الكرامة والحياة اللائقة؟
يبقى السؤال المؤلم، هل ستعود هذه المدارس إلى سابق عهدها كمنارات للعلم، أم ستظل شاهدةً على جروحٍ لا تندمل وأحلامٍ تحطمت على صخور الواقع؟ في هذه اللحظة، يبدو أن الإجابة معلّقة بين الأمل والانتظار.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا