عبدالله ريشا أمين عام المركز اللبناني للدراسات الاستراتيجية - الجمهورية
تحكم أطر الحياة السياسية في لبنان قراءتان سياسيّتان لما يجري على جبهة الإسناد الجنوبية، هي جبهة دعم انطلاقاً من واجب ديني وأخلاقي وسياسي، وإسناد وقائي لما قد خطر على بال وزير الحرب الإسرائيلي في 11 تشرين، من فكرة الدخول إلى لبنان. أمّا المقاربة الأخرى، فهي حرب تدمير مجانية أطاحت بالبشر والحجر من دون أن تنجح في مهمّتها الأساسية.
أصحاب الفكرتَين منقسمون في السياسة والاجتماع والاقتصاد والفلسفة والجيوسياسة، يتقاذفون التُهَم يومياً على المنابر وفي المقالات المفخّخة، يُعيدون النظر بتكوين لبنان الكبير وبطبيعة إسرائيل وعلاقتها بلبنان. كل شيء متاح، كما في جبهة الإسناد الخارجية كذلك في جبهة جردات الحساب الداخلية.
إنّه لبنان التناقضات، وُلِدَ بتناقضَين، جبل لبنان المسيحي أو جزء من سوريا الكبرى، وانتهى بتسوية حدود الـ10452 كيلومتراً مربّعاً. من تناقض، حلف بغداد وعقيدة أيزنهاور أو الجمهورية الاتحادية وامتداد جمال عبد الناصر، لينتهي بتسوية خيمة الحدود اللبنانية- السورية. ومن تناقض ورقة الحركة الوطنية الإصلاحية عام 1976 إلى رؤية دير سيدة البير الجبهوية، لينتهي الأمر في تسوية الطائف.
هذا في التاريخ وخواتيم قضايانا الخلافية، أمّا في التحليل ومقاربة ما يجري في جبهة الجنوب، ينبغي الاعتراف أنّ ثمة قراءة أخرى مختلفة عن القراءتَين، تقول إنّ «حزب الله» تحرّك في توقيت سياسي أكثر ممّا هو عسكري، فهو لم يباغت ليتوغّل في لحظة انشغال كان العدو منشغلاً فيها بمجريات عملية 7 أكتوبر، ولم يقم بعملية كانت لتفشل لو تأخّرت أسبوعاً أو شهراً أو حتى سنة. لو أراد الانتظار ربما كان قد استمع إلى تصريح يؤاف غالانت المطالب بالدخول إلى لبنان، ليجده ذريعة لتشريع تحرّكاته الإسنادية وإسكات الأصوات المشكّكة في الداخل. لو انتظر اعتداءً أو غارة أو حتى اغتيال أحد قادة «حماس»، كان ليربح الجبهة الداخلية في السياسة والحجة والتبرير، لكنّه لم يفعل ذلك، فكان توقيته سياسياً ذا ارتباطات متعلقة بنكبة 48 وحرب 67، معادلة مستوحاة من تجارب وأحداث حكمت الشرق الأوسط وامتدّت ذيولها إلى الداخل اللبناني.
فتسوية الهدنة في الـ48 على الرغم من الخروقات الإسرائيلية التي تلتها، أتت بعد تدخّل الجيش اللبناني واحتلاله لقرى في الجانب الفلسطيني المحتل. أمّا كارثة 1975 فأتت بعد حياد الـ67 والتفرّج على اللعبة الإقليمية، يومها كان الثمن باهظاً بالتأكيد، وأكبر من ثمن التدخّل إذا حصل. لا يقارن تفكّك الجيش ودخول المسلحين الفلسطينيِّين إلى الداخل اللبناني واندلاع حرب خارجية على أرضنا وداخلية بين اللبنانيِّين مع دمار بعض القرى اللبنانية. ولا يقارن تدخّل الـ48 بحياد الـ67.
ربما توجّه السيّد إلى قيادة الحزب يوم 8 تشرين قائلاً لهم، فلنتدخّل وإلّا دخلت «حماس» وتحرّكت «فتح»، وأطلقوا الصواريخ من بنت جبيل والناقورة لتردّ إسرائيل وتتوغّل عليهم حتى طريق صيدا القديمة.
فلنبادر قبل أن تتحرّك إحدى وكالات الاستخبارات الخارجية باتجاه 10 آلاف نازح سوري من أصل مليونَين ونصف، وتُسلّحهم بغضون أسابيع وتطلقهم في الداخل والأحياء، في تظاهرات مؤيّدة لغزة لتندلع المواجهات بينهم وبين المسيحيِّين بشكل أساسي، وفي الجنوب مردّدين هتافات، «أين الحزب والمقاومة، غزة احترقت والقدس سقطت».
ربما التفتَ أمين عام «حزب الله» إلى القادة الميدانيِّين قائلاً، إفعلوا شيئاً قبل أن يُتهم الجيش بالتلكّؤ والخَوف من الأميركيِّين إذا منع الفلسطينيِّين من إسناد غزة بالصواريخ باتجاه الجليل، لتلي الاتهام انقسامات سياسية وربما عسكرية على غرار ما حصل عام 73 و75، وعند كل محطة تُرِك فيها البلد من دون ناظم.
هي «الأمر لي» الوقائية ذات الأبعاد اللبنانية الداخلية المتعلقة بفوبيا السقوط ضحية تسويات ما بعد الحروب، إذ يقع الضعيف المتردّد أمام القوي المبادر، أو أنّها «الأمر لي» للمساندة والمساعدة في المنازلة الكبرى بين محور الممانعة ومحور الولايات المتحدة. أو هي الاثنان معاً؟
هل هو «حزب الله» الذي سيَجرّ لبنان إلى حرب مزلزلة، ستُدمَّر فيها بيروت وصيدا وصور، لتُصبح على صورة المدن المنكوبة، ويسقط لبنان الكبير بالضربة القاضية وليس في المقالات، أم أنّه «حزب الله» الذي سيُنهي الحرب على صورة المعادلة الآنية، ليفرض التنقيب في التسوية وبعده عودة النازحين، وإعادة صياغة لبنان ميشال شيحا، التعدّدية والحرّية والعيش الواحد والجسر بين الشرق والغرب ولؤلؤة الشرق ومصرف العرب مضافاً إليها، المقاوم.
لا تقييم أو موقف أو تحليل يبقى مفيداً تحت صوت القنابل وهدير المُسيّرات، كلّها اجتهادات موقتة للصرف الداخلي. وحدها لحظة وقف إطلاق النار ستنهي الصخب، وتُدخل تجربة 8 تشرين إلى دروس التاريخ والجيوسياسية إلى جانب الـ48 و الـ67، حينها سيُحسَم الجدل حول مغامرة «حزب الله» الكبرى.