تركيا ماضية في استراتيجيتها.. محادثات أنقرة – دمشق طعم لصيد أردوغان الثمين
تركيا ماضية في استراتيجيتها.. محادثات أنقرة – دمشق طعم لصيد أردوغان الثمين

خاص - Thursday, July 18, 2024 12:55:00 PM

"مددنا يد الصداقة إلى جارتنا سوريا وسنواصل ذلك".. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تصريح على متن الطائرة أثناء عودته من كازاخستان عقب انتهاء قمة شنغهاي 05/07/2024

في طارئ جديد على صعيد العلاقات التركية – السورية، أبدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استعداد بلاده للتفاهم ومد يد العون و"الصداقة" لسوريا الرازحة تحت وطأة العزلة الدولية التي تبدو معالم انحسارها تدريجيًا أقرب من أي وقت مضى. لطالما كانت العلاقة بين البلدين أبعد من مجرّد حسن الجوار، حيث كان حجم التجارة البينية قبل العام 2011 يلامس الـ 2.5 مليار دولار، وكان متوقعًا أن يصل الرقم بحلول نهاية العام عينه إلى 5 مليار دولار.

فمع تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد مطلع العقد الماضي، اتخذت تركيا موقفاً دبلوماسياً أولياً يدعو لإجراء "إصلاحات سياسية". وعلى وقع تصاعد وتيرة الاحتجاجات، أرسلت تركيا وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو، إلى دمشق لتوجيه رسالة شديدة اللهجة تطالب بوقف "العنف والإجراءات القمعية وتنفيذ الإصلاحات"، ورفضت سوريا الدعوة التركية، فصعّدت أنقرة موقفها وطالبت الأسد بالتنحي "منعاً لإراقة الدماء".

وفي آب 2011 تشكّل الجيش السوري الحر من المنشقين عن الجيش السوري النظامي، وأعلنت أنقرة تعليق أنشطة سفارتها في دمشق وإغلاقها بسبب تدهور الظروف الأمنية في البلاد، ليصوت البرلمان التركي في ما بعد على الموافقة على مذكرة تمنح الحكومة صلاحية القيام بعمليات عسكرية في الأراضي السورية. كما أغلقت تركيا عدداً من معابرها الحدودية مع سوريا عام 2014 إثر دخول آلاف الأكراد السوريين إلى أراضيها، وذلك إبان الاشتباكات بين القوات التركية والمسلحين الأكراد، وفي العام عينه وافق البرلمان على السماح للجيش بدخول الأراضي السورية والعراقية، وسمح للقوات الأجنبية باستخدام أراضيها لقتال مسلحي تنظيم "الدولة الإسلامية".

وقد شهدت سوريا منذ بداية الحرب تدخلات عسكرية تركية متعددة، تركزت بطبيعة الحال شمالي البلاد في مناطق تواجد الجماعات الكردية المسلحة التي تشكل أرقًا لأنقرة، كوحدات حماية الشعب الكردية الموالية لحزب العمال الكردستاني "pkk"، وكانت هذه العمليات تهدف لتحقيق "ضرورات أمنية وسياسية واقتصادية" حسب ما قاله المسؤولون الأتراك وقتذاك.

وعلى الرغم من التوترات المتصاعدة، انطلقت بعض المحاولات لتحقيق تقارب بين البلدين منذ العام 2016 برعاية روسية وإيرانية، ونتج عن هذه المساعي محادثات عُرفت بـ "مسار أستانا"، برعاية الدول الضامنة (تركيا وروسيا وإيران)، بالإضافة إلى ممثلي الحكومة والمعارضة السورية، وهدفت المحادثات إلى إيجاد حل للأزمة السياسية في سوريا.

وقد اقترحت موسكو العام الفائت "خارطة طريق" لتطبيع العلاقات بين دمشق وأنقرة، حيث اتفق وزراء خارجية الدول الضامنة وسوريا في اجتماع رباعي في روسيا على رسم خارطة طريق تهدف إلى إعادة بسط السيادة السورية على كامل أراضي البلاد.

وفي هذا السياق، نقلت صحيفة "الوطن" السورية منذ قرابة الأسبوعين عن مصادر أن "اجتماعاً سوريًا - تركيًا مرتقباً سيعقد في بغداد، وهذه الخطوة ستكون بداية عملية تفاوض طويلة قد تفضي إلى تفاهمات سياسية وأمنية".

غير أنه لا تزال هناك عقبة أساسية تعترض طريق التقارب بين البلدين تتمثل بالوجود العسكري التركي في شمال سوريا، والذي تراه الأخيرة احتلالًا وتشترط زواله لتطبيع العلاقات، الأمر الذي لطالما رفضته تركيا، متذرعة بوجود قوات كردية على حدودها الجنوبية وتشكل خطراً على أمنها القومي.

حذاقة أردوغان والتهوّر السعودي - الإماراتي 

لفتت العديد من التقارير الصحفية إلى أن اللقاء المزمع عقده في العاصمة العراقية بغداد من المتوقع أن يكون برعاية روسية وإيرانية وصينية وبدعم سعودي وإماراتي... وهنا تظهر أولى علامات ما يمكن وصفه "بالتهوّر" الاستراتيجي أو "ضيق مروحة الخيارات" بالنسبة للمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات المتحدة، لاعتبارات سيتم بلورتها.

[1]القاعدة التركية التي أُقيمت في السودان عام 2018، أثارت امتعاضًا سعوديًا وإماراتيًا ومصريًا، كون القاعدة تقع في جزيرة سواكن السودانية على سواحل البحر الأحمر، أي على مشارف قناة السويس، الأمر الذي يضع مصر بمواجهة خطر التمدد التركي في هذه الرقعة الجغرافية وبالتالي تهديد حركة التجارة وتدفق البضائع عبر القناة. هذا وتقع سواكن على مقربة من مشروع نيوم الاقتصادي الذي يكلّف السعودية مئات مليارات الدولارات، ما ينذر بإلحاق الضرر بمشروع "رؤية 2030" الذي يعتبر من ركائز سياسة ولي العهد محمد بن سلمان الاقتصادية والسياسية، وتهدد المشاريع الاستراتيجية في نيوم وساحل البحر الأحمر التي تعول عليها المملكة لتنويع مصادر دخلها في محاولة لتخفيف اعتمادها على العائدات النفطية.

[2]  ومع استفحال أزمة العملة التركية في صيف 2018، ذهبت بلدان المنطقة وخصوم أنقرة السابقين نحو الاعتقاد بأن تركيا قد تعدل عن استراتيجيتها السائدة وإبدال نهج قديم كامل بنهج سياسي جديد مغاير للعداوة والتدخل في الشؤون الداخلية لمصر والسعودية والإمارات والعراق وسوريا، إلى سياسة الصلح والوئام وتبادل المنافع والفوائد وتحقيق المصالح المشتركة، وبناء قواعد طيب العلاقات الثنائية الإقليمية، والإعراض عن التواطؤ مع الجماعات الإسلامية التي لجأت إلى تركيا واعتصمت باستراتيجيتها في العقد المنصرم لبلوغ السلطة في بعض دول المنطقة.

وذهبت أنقرة باتجاه توقيع اتفاقيات تعاون على المستوى التجاري والاقتصادي بينها وبين كل من السعودية والإمارات، حيث تم الاتفاق بين الجانبين الإماراتي والتركي على زيادة التبادل التجاري في ما بينهما، لتصل قيمة الاتفاقيات الإجمالية إلى نحو 50.7 مليار دولار وفق بيان صادر عن دائرة الاتصال التابعة لرئاسة الجمهورية التركية، فضلًا عن اتفاقيات شراكة في المجال العسكري والدفاعي وبصورة خاصة المسيّرات التركية الصنع من طراز "بيرقدار" التي حققت نجاحًا ملحوظًا في الميدان إبان الحرب الأوكرانية – الروسية.
هذا وقد أقدمت شركات تركية وسعودية على الخطوة عينها، من خلال توقيع 16 اتفاقية تعاون على الأقل في مجالات مختلفة، أبرزها الصناعة والعقارات، وحدث ذلك خلال منتدى الأعمال التركي السعودي المنعقد في شهر تموز من العام الفائت، في مقر مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي في اسطنبول، ومن شأن هذه الاتفاقيات أن تعزز التبادل التجاري بين أنقرة والرّياض على حد سواء.

هنا لا بد من الإشارة إلى حذاقة أردوغان من جهة، والتهوّر السعودي – الإماراتي من جهة أخرى، فأنقرة بعقدها اتفاقيات تعاون وشراكة مع الرّياض وأبو ظبي اللتان تظنان أن تركيا قد تخلّت عن أحلامها وطموحاتها التوسعية في المنطقة وتربعها على العرش الإقليمي والإسلامي، تعمل على محاصرتهما شيئًا فشيئًا، ونقطة انطلاقها البحر الأحمر، حيث لها قواعد عسكرية في السودان وجيبوتي والصومال، إضافة إلى قاعدة في قطر جارة السعودية والإمارات، والعراق وسوريا. لذا من الواضح وغير القابل للشك أن تركيا ماضية في استراتيجيتها التوسعية ولن تتخلّى عنها، في حين إقدام السعودية والإمارات على عقد اتفاقيات الشراكة مع أنقرة خطوة محفوفة بالمخاطر، أشبه بفخ نصبه أردوغان لإيهامهما بنواياه الطيبة والتجارية البحتة، فيما يشق الطريق من خلفهما للإطاحة بهما والتربع على عرش الزعامة السنية منفردًا.

لماذا تدعم السعودية والإمارات فكرة المحادثات السورية – التركية؟

من الجلي أن المنطقة تشهد تغيرات جذرية مع الحرب في غزة، ومن المتوقع أن يشهد الشرق الأوسط في اليوم التالي للحرب مرحلة من الاتفاقات والمحادثات التي من المحتمل أن ينتج عنها معادلات جديدة، الأمر الذي سيحدث تقلّبات عدة في موازين القوى. وسوريا ليست بعيدة عن المشهد الإقليمي إن لم تكن الحلقة الأهم قبل حرب غزة، وإيران حليفة نظام الرئيس السوري بشار الأسد ورافعته إلى جانب روسيا، وعلى الرغم من الاتفاق السعودي – الإيراني التي رعته الصين، لا تزال بعض العوائق تكتنفه خصوصًا بعد التهديد المباشر الأخير الذي وجهته جماعة أنصار الله للسعودية بحال انطلقت أي أعمال عسكرية من أراضي الأخيرة للتدخل ومنع العمليات الحوثية في البحر الأحمر ضد السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية.

فعند المراقبة الدقيقة للأحداث المتتالية في المنطقة، من الواضح أن الإمارات والسعودية تسعيان للدفع باتجاه محادثات تركية – سورية لتعود العلاقات بين البلدين إلى سابق عهدها، وذلك في محاولة من الدولتين الخليجيتين لجعل سوريا تقلص اعتمادها على إيران. غير أن شيئا ما يغفل عن الرّياض وأبو ظبي، ألا وهو طموحات تركيا التوسعية وإعادة الأمجاد التاريخية، فتركيا ولو أنها تعتبر قوة سنية وتتشارك معها بنفس الأفكار، إلا أن التاريخ يذكرنا بمحاولاتها في ترجمة القرآن الكريم إلى التركية، وتعصبها القومي وبغضها للعرب الذي بات واضحًا في تلك الفترة بعدما دفعت بهم على الجبهات الهزيلة والخاسرة خلال الحرب العالمية الأولى، عدا عن أن فكرة إخراج إيران أو تقليص نفوذها في سوريا تتطلب أكثر من مجرد محادثات سورية – تركية وأشبه بحلم في خضم ترسيخ طهران نفوذها في المنطقة خلال الأحداث الأخيرة في جنوب لبنان واليمن وفلسطين.
فتواجد إيران الشيعية في سوريا يشكل خطرًا على المصالح السعودية والإماراتية، ويضع الرّياض وأبو ظبي بحالة قلق دائم من تنامي دور طهران في المنطقة، وبشكل خاص خلال الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة.
وبالتالي فإن خيارات السعودية والإمارات محصورة بين السّيئ والأسوأ، أي بين القوة الشيعية في المنطقة والتي هي ليست سوى امتداد تاريخي للعقلية والاستراتيجية الفارسية من جهة، وبين تركيا، القوة السنية المنافسة للسعودية والإمارات، وتهديدًا دائمًا لمصالحهما أيضًا، سيما أن أردوغان يستفيد في الوقت الراهن من حرب غزة ويستثمرها في خطاباته السياسية لاستعطاف الرأي العام العربي خصوصًا والمسلم عمومًا، الأمر الذي قد يمنحه دافعًا للتحرك بشكل أوسع في المسرح الإقليمي حاليًا لإجراء محادثات مع دمشق كخطوة أولية، قبل مواصلة رحلة الزحف الدبلوماسي التركي إلى دول أخرى في المنطقة كجزء من الاستراتيجية التركية غير المتبدّلة، والمصحوبة بعوامل مساعدة كضيق الخيارات أمام الرّياض وأبوظبي، وتهوّر الأخيرين بعقد اتفاقيات مع أنقرة من دون أي ضمانات، وأشبه بطعم رماه أردوغان لصيده الثمين.

[1] سلسلة عودة الأسدين: تركيا لم تبدل استراتيجيتها – المفكر السياسي الدكتور محمد وليد يوسف

[2] سلسلة عودة الأسدين: تركيا لم تبدل استراتيجيتها – المفكر السياسي الدكتور محمد وليد يوسف

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني