كتابة بحبر الكآبة
كتابة بحبر الكآبة

ناقوس في أحد - تعليق على الاحداث مع رشيد درباس - Sunday, June 23, 2024 10:52:00 PM

النقيب السابق للمحامين فيطرابلس، الوزير السابق رشيد درباس 

نويت أن أسركم باستئناف كلامي عن عاديات السفر، وغرائبه، غير أنني فور استلقائي على سريري في السادسة صباحاً، أي ساعة وصولي، فوجئت بأن مدبّرة مكتبي على مدى خمسة عشر عاماً، قد دخلت الغيبوبة ثم فارقت الحياة وهي في الأربعينيات من العمر؛ تعودت ان أكتب "الناقوس" بعد أن أرشف القهوة التي تعدها لي الراحلة السيدة رلى، أما اليوم فالكآبة هي حبر الكتابة فاعذروني.

كم راودتني الأفكار المضحكة أثناء المعاناة النفسية والجسدية في رحلة أردناها للمّ شمل الأسرة الموزّعة بين البلاد والجنسيات، فرحت أرتّب سردها في سياق كاريكاتوري، ولكنّ مزاج الممازحة غادرني وبقيت لي آلام الظهر والمفاصل، كما استبدّ الأرق والقلق، والسأم والغضب من شركة طيران تلتزم معك بأوقات محددة، ثم تطيح بالتزاماتها دون أن يرف لها جفن !

فلقد كان موعد اقلاعنا من بيروت الرابعة صباحاً لكي نحط في اسطنبول لمدة ساعتين، نصل بعدها مع الشركة نفسها إلى بودابست في الثامنة صباحاً، ولكن الشركة التركية آثرت أن نصل في الثامنة مساء فألغت بذلك يوما كاملاً من أيام الرحلة، وفي العودة كان المفترض أن نصل إلى بيروت في التاسعة مساء فوصلنها في الثالثة فجراً، لأن الشركة المذكورة أنكرت أن تكون عندها رحلة في الساعة المحددة لنا في (البوردن كارت)، وبالأمس طار ابن اختي من جنيف ليصل إلى بيروت في الثامنة مساء فوصل في الثالثة فجراً... أحذّركم من هذه الوسيلة، فهي تتحكم بكم من غير علمكم، وتختصر إجازاتكم أو تطيلها بلا أي معايير...

ومن حسن حظي، أنني استطعت أن أقصر مسافة الانتظار المؤلم، بالاستعانة برفيق سفر أنيس جداً، اسمه (مقعد على ضفاف السين) لأمين معلوف وعنوانه بالفرنسية Un fauteuil sur la seine.. Quatre siecles d'histoire de France وهكذا، جلست على مقعد افتراضي على ضفاف البوسفور، لأغوص في أربعة قرون من تاريخ فرنسا، شاءت عبقرية أمين معلوف سردها بأسلوب فني ومشوق، وفائق الدقة، من خلال الحديث عن أسلافه الذي شغلوا المقعد التاسع والعشرين في الكاديمية الفرنسية، (أكاديمية الخالدين les immortels) فكأنه تعمّد أن يحييهم كلهم من خلال سيرهم في خضم التطورات السياسية التي بدأت مع الكاردينال ريشيليو و" ولويس الرابع عشر" إلى أيام جاك شيراك وايمانويل ماكرون، إذ يقول: "جلس الواحد منهم تلو الآخر على المعقد التاسع "والعشرين، وعرفوا حقب العظمة، أو الرعب والتشدد "الديني، أو عصر التنوير وفترات الملاحم، والضياع "والهزائم، ثم رحلوا بعد أن خلّفوا او لم يخلّفوا وراءهم "آثاراً. تلك هي القصة المديدة التي شئت أن أسردها انطلاقاً "من هذا المعقد الخشبي الذي أجلس عليه بدوري لبعض الوقت حدثنا أمين معلوف عن أسلافه الثمانية عشر بعدما كان يعد العدة غداة انتخابه لإلقاء الكلمة التقليدية في وداع كلود ليفي ستروس الذي عاش مئة عام وعام فوجد نفسه يبدأ منذ pierre bardin، الشاغل الأول للمقعد والذي قضى غرقاً في السن في محاولة انقاذ تلميذه مروراً فرنسوا دوكاليير الذي اكتسب مقامه الفكري بعد مئتي سنة على وفاته باكتشاف كتبه (فن التفاوض في فرنسا) واعادة نشره والذي فحواه أنه توجد لدى الاممم المتحدة كثير من الخصائص المشتركة، التي يمكن ان تحلّ محل الحروب الدامية، وكذلك جوزيف ميشو الذي يعود له الفضل في كتابة تاريخ الحروب الصلبية، بعد مجيئه إلى الشرق ومعاينته الشخصية لتلك الحقبة كما يحدثنا عن كلود برنار أبي الطب التجريبي، وصولاً إلى أرنست رونان الذي تعرض لاضهاد نابوليون الثالث رغم إعجابه الشديد به، وذلك بسبب من تأثير المتشددين الدينين.

كان الكتاب يروّح عنّي ويمدّني بمواد لا تحصى، ولقد لفت انتباه ابنائي والحفيد الأكبر إليه، وحدثت نفسي أثناء نزهتي معهم إلى فينا، كيف أن كاليير وجد الخصائص الأوربية المشتركة، وقلت يا حبذا لو رافقني فشاهد امحاء الحدود وحرية التجول بين الدول ووحدة الدولة ربما كان ذلك سيدفعه لنص جديد يحذر فيه من الردة العنصرية اليمينية التي تجتاح أوروبا. عدت الى بيروت في الثالثة صباحاً، فلم أخرج من المطار إلا في الرابعة والنصف، فحشد المسافرين كبير وعدد الموظفين قليل ومازال المطار يعجج بالقادمين رغم الحروب ورغم الفوضى.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني