مارفن عجور
ها هي الدنيا تشتدّ أمامنا... والليل يُصبح مظلماً أكثر... والرياح تعصف بشدّة... فماذا إذاً؟
وباءٌ صحيٌّ، وباءٌ اقتصاديٌّ، وباءٌ سياسيٌّ، وباءٌ تعليميٌّ. أوبئةٌ اجتمعت في آنٍ واحد، وتحت وطأة بلدٍ واحد اسمه "لبنان"، فإلى متى سيتحمّل لبنان كلّ هذه الأوبئة دونَ أن ينتفض ويصرخ ويعضُّ بلسانه تلك الأزمات؟ إلى متى سيغصّ لبنان، سيغصّ بالأوجاع والآهات المتتالية التي يلفظها كلّما وقف على حافة الهاوية منتظراً السقوط الذي أصبح حتميًّا؟ إلى متى؟ إلى متى؟ إلى متى سيهاجر النازف، يهاجر من وطنه، يهاجر من نفسه، يهاجر من كيانه، يهاجر من هوّيته، يهاجر من أصله، يهاجر منه؟
حقًّا! لا أحد يعرف. فإمّا تنهي علينا الأزمة إمّا ننهي عليها... عبارةٌ شعبيةٌ كثر تكرارها في الأعوام العصيّة الأخيرة.
وهل صدقت؟ فبالفعل صدقت! وصحيحٌ أنّها كانت كمزحةٍ في وطنٍ عُرِفَ أبناؤه بالضاحكين في وجه المآسي، بالصامدين في وجه المعاصي، إلّا أن تلك العبارة كادت أن تؤخذ على محملٍ جديًّ لتؤكّد لنا حقًّا أن الأزمة أنهت علينا، وبثقلها رمت علينا، وبصعوبتها قست علينا. فسألنا : "إلى أين سنهاجر؟" وهل هاجرنا؟ نعم! إمّا هاجرنا إلى بلدانٍ أخرى إمّا بقينا على أرضِنا وهاجرنا منها إلى كابوسٍ فهل عرفنا بيوم أنّ لبنان كابوس؟ كان من الصعبِ علينا التأقلم! فامتطينا أمواجنا مرتحلين إلى هناك، هناك حيث العالم الثاني، عالمٌ غريبٌ، لغةٌ جديدةٌ، عاداتٌ وتقاليدٌ جديدةٌ. أم هناك لبنانٌ جديدٌ، لبنان الكابوس، لبنان الشبح، وأهذا لبنان؟ فكلا! هذا ليس هو. هل يعود؟ فلا نعرف أين هو لنعيده. وازدادت الأزمات، ازدادت الأوبئة، انتشرت وآهٌ من كثافة انتشارها. وأطعمتنا من بحرِها لنغصّ، وسألنا وسألنا "إلى أين سنهاجر؟"
وهل الهجرةُ دواءٌ؟ في وقت انقطعت عنا الأدوية.
هل الهجرةُ ماءٌ؟ في وقت انقطعت عنا المياه.
هل الهجرةُ خلاصٌ؟ في وقتٍ لم يعد للخلاصِ وجود.
هل الهجرةُ بابٌ للتعلّم؟ في وقتٍ سحقتنا الأقساط المدرسية ولم تترك لنا مجالاً أن نصبر قليلاً.
هل الهجرةُ بابٌ للعملِ؟ في وقتٍ لا عمل ولا انتاج.
هل هي كذلك؟
نعم! بالإمكان أن تكون كذلك لكلّ نازفٍ نَزَفَ سلطةَ وطنه، وفساد سلطته، وجرم سلطته، وخبث سلطته، وعبء سلطته.
وما أعظم هذه السلطة! كانت وما تزال وستبقى تتوّسع في حربِها على الشعب. فاليوم، المسألة الشائعة مسألة الأقساط المدرسية، فالقسط يتخطى الألف دولار وهذا ليس كلّ شيء، فهناك ما يُدفع بالعملة اللبنانية أيضاً وقد تخطى العشرين مليون، أمّا عن التكاليف الأخرى من رحلاتٍ وزيّ مدرسيّ وأقلام ودفاتر وحقائب وحافلات فلا يمكننا إلّا أن نقول مع الأسف! فلا أصحاب المكاتب يمكنهم الهدوء ولا أصحاب المدارس أيضاً. ندخل إلى مكتبةٍ، نرى الدفاتر مكدّسة بالمئات، والدفتر يتخطّى سعره المعقول، أما عن الأقلام فالأمرُ نفسه، والحقائب وكأنّها حقيبة سفرٍ، وحافلات النقل التي تنقل التلامذة من منزلهم إلى المدرسة وتعيدهم من المدرسة إلى منزلهم فالأمر نفسه، ارتفعت وحلّقت في فضاء الجنون. فهل تلميذُ الروضة، تلميذٌ جامعيٌّ مثلاً؟ وماذا يحصل في المدارس، هل ستصل إلى أقساطٍ خياليةٍ في العام المقبل إلّا أنّها بدأت في تعميم أقساطها على الأهل منذ هذا العام؟ هل ستُقفِل أبوابها لأنّ لا من تلميذ قادر أن يدخل إليها ليتغذّى ثقافةً وأدباً وعلماً؟ أم أنّ المدارسَ ستُصبِح للأغنياء فقط؟ وهل ستذهب الطبقات الوسطى والطبقات الفقيرة إلى المدارس الرسمية؟ من المعقول جدًّا ذلك. لكن، هل المدارس الرسمية تنعم بالعافية؟ فوضعُها يزداد سوءاً. لا راتب جيّد للمعلمين، ولا مواصلات مؤمّنة، ولا صيانة للمدارس منذ عدّة أعوام. وإن كانت المدارس الخاصة تعاني من المشكلات نفسها، إلّا أنّ المدارس الرسمية يزداد حالها سوءاً وتحتسي أكواب المرّ مع مرور الأيام، وذلك ما يؤثّر على مصير التلامذة في حياتهم الدراسية ومن ثمّ المهنية.
وأين هي السلطة؟ أين هو الشعب؟ يتحرّك، ينتفض، يثور، يثور على هذه الجريمة الإنسانية التي لم تطل فقط القطاع التعليمي بل جميع القطاعات أيضاً.
وماذا عن المستشفيات؟ التي تُصبح اليوم مكانَ موتٍ وليسَ مكانَ علاجٍ. فمُذْ أن تدخل إليها حيًّا، تقتلك، وتتقاضى عليك اجرَ خدمتها المُضحِكة، فماذا فعلت لك سوى أنٍّها قتلتك؟ وأين هي وزارةُ الصحة؟ الحاضرة الغائبة، المستيقظة النائمة. ما هذه المزرعة التي نعيش فيها؟ حقًّا نزفنا، نزفنا بشدّة، وهاجرنا إلى هناك، هناك حيث لبنان آخر ليس بلبنان فحسب.
هاجرنا، هاجرنا، وأبكينا بهجرتنا أهلنا وأبقيناهم على أرضهم، يتعذبّون، لعلّهم يصلّون، ولعلّ في صلاتهم يصبرون، فلا يموتون، من أزمةٍ واحدةٍ يروحون ضحيّةً، ويدفنون كما دُفِنَ قبلهم ضحايا الأزمة.
هاجرنا نبحث عن مضمّد لجراحنا، لكن الجراح لم تضمّد، هاجرنا نبحث عن المادّة، والروح بقيت هنا في لبنان، لكنّ، ما الحل سوى ذلك؟ كيف لنا أن نتمسّك بالعاطفة في وقتٍ هناك من تخلّى عنها، عندما كان هو من عليه أن يتمسّك بها، ليخلّص شعبه الذي طلبَ المسؤولية عنه، ففهم المسؤولية بشكلٍ خاطئ. هاجرنا لنوّقف نزيفنا نحن المهاجرون النازفون، هاجرنا لأنّنا لا نكّف عن طلب العلم والعمل، الكدّ والجهد، عُرِفنا بالشعب الذي يحبّ الحياة، فلم يطاوعنا قلبنا أن ننقطع عنها، هاجرنا نبحث عنها في الخارج، ومع الأسف لم نجدها سوى في لبنان. لكن، أين هو لبنان؟ ها هو في مقبرةِ الموت الآن، يرمون عليه الورود الجارحة، التي تُطعِم المزيد من الأمراض. هاجرنا، وما أمرّ هجرتنا! نحن الرائدون، المفكرّون، الصانعون، الحالمون، الواعدون، الآملون، نحن اللبنانيون. هاجرنا، لعلّنا نحصد ممّا زرعناه، ونأكل ممّا صنعناه، ونرتدي ممّا نسجناه، هاجرنا، فلا بعملٍ هنا يقدّر من نحن، هاجرنا، لعلّ الشمس تُشرِق علينا مع إشراقة كلّ صباح، بعدما حاوط الظلام نهارنا وليلنا، صباحنا ومساءنا.
ها هو الوضعُ يزدادُ سوءاً، والمعضلات تقتلنا ببطء، ببطءٍ شديدٍ، فالهجرةُ موتٌ، والموتُ هذا هو موتُ الحياة، لكن وحدها الصلاة هي من تسهم في قيامتنا العاجلة ولو حتى في عزّ السقوط. مدارسٌ ثمينةٌ؟ مستشفياتٌ خبيثةٌ؟ هذا لا شيء أمام الإنسان، الإنسان اللبناني الذكي، الذي ليس عليه أن يهدر ذكاءَهُ وخصوصاً اليوم، فاليوم أهمّ من كلّ شيء، فلنعش، لأنّنا نطلب الحياة، فلنعش ولو لم نعش في لبنان، ولو هاجرنا منه إلى وطن آخر، ام بقينا فيه مهاجرين إلى الكابوس، فلنعش ولو متنا، فلنعش لنقتل أيدي المجرمين ولنرفع أيدينا، أيدي الرائدين، المفكرّين، الأطباء المعالجين لكلّ الكوارث.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا