طوني عيسى-الجمهورية
هناك عالم جديد قيد الولادة خلال أسابيع أو أشهر. من موسكو وطهران إلى أوروبا وواشنطن، مروراً بإسرائيل، الصقور يمسكون بكل شيء. فأيّ مكان يبقى للاعتدال في العالم؟ ووسط هذا التطرف، هل سيهتم أحد بإحياء لبنان التعايش والحوار؟
صُدم المجتمع الدولي بالصعود الصاروخي لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا. وفي الدولتين الأقوى في الاتحاد الأوروبي، ألمانيا وفرنسا، سيكون الزعيمان في موقع ضعيف خلال المرحلة المقبلة، فيما ستكون رئيسة وزراء إيطاليا الآتية أساساً من اليمين المتطرف في وضعٍ أقوى.
وعلى الأرجح، بعد الانتخابات النيابية التي دعا إليها الرئيس إيمانويل ماكرون في 30 من الجاري، هو سيضطر إلى التعاون مع حكومة ومجلس نواب يتحكِم بهما اليمين واليمين المتطرف. أمّا في ألمانيا، فاليمين المتطرف بات القوة الأساسية في نصف البلاد، وتحديداً في المناطق التي كانت تقع ضمن حدود «ألمانيا الشرقية» سابقاً.
هذا الانقلاب في أوروبا سيفرض تحولات استراتيجية بالغة الأهمية في دول الاتحاد الأوروبي تتعلق برؤية كلّ منها لمسائل المجتمع والاقتصاد والسياسة داخلياً وخارجياً، خصوصاً بالنسبة الى ما خصّ ملفات الديموغرافيا والجنسية والهجرة والأمن والإرهاب.
والأهمّ طبعاً هو إيلاء اليمين المتطرف مسألة «الوطن» أو «القومية» أهمية تفوق تلك المُعطاة للمفهوم الأوروبي الواسع والمنفتح. وهذا ما سيعيد إلى الوراء ما تحقق من أحلام «أوروبا الموحدة» على مدى عقود. وهذا الأمر سيريح الصقر المُمسك بروسيا، فلاديمير بوتين. وستكون أوكرانيا هي المتضرر الأول، إذ من المحتمل حدوث انعطاف خطر في مسار الحرب هناك لمصلحة موسكو.
والمُثير هو أنّ هذا التحول الأوروبي نحو اليمين المتطرف يتزامَن مع الاتجاه المتوقع أن تسلكه الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني المقبل، إذ ترجح حتى اليوم كفة دونالد ترامب الذي يمثّل الاتجاه إيّاه في الولايات المتحدة، والذي أطلق الوعود أساساً بإنهاء حرب أوكرانيا، بطريقة معينة، انطلاقاً من العلاقة الوطيدة التي تربطه بالقيصر الروسي.
وإنهاء الحرب في أوكرانيا سيبدّل المعادلات على المسرح الدولي بأسره، خصوصاً في الشرق الأوسط، أي النزاع بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل، والحرب الدائرة في غزة، ومستقبل التطبيع بين العرب وإسرائيل. وهنا أيضاً يجدر التوقف عند تغييرَين شهدتهما الأسابيع والأيام الأخيرة:
ـ نهج القيادة الإيرانية، بعد رحيل ابراهيم رئيسي وانتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة هناك، والدور الذي سيضطلع به الحرس الثوري دعماً لنهج المرشد علي خامنئي.
ـ إنجراف حكومة الحرب في إسرائيل إلى مزيد من التطرف، بعد استقالة غانتس وآيزنكوت، واحتمال حلول الشخصيات الأكثر تطرفاً على الإطلاق في تاريخ إسرائيل في مكانَيهما. وهذا ما يجعل نتنياهو شخصية «معتدلة» نسبياً داخل حكومة الحرب.
هذا التغيير في إيران وإسرائيل سيقود إلى بلورة اتجاهات جديدة للملفات في المنطقة، سواء في ما يتعلق بالنزاع بين طهران وكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، أو بالحرب التي تخوضها إسرائيل على جبهتين، في غزة وفي جنوب لبنان. بل إنّ ذلك سيقود إلى تحديد مستقبل القضية الفلسطينية التي ستدخل مرحلة محفوفة بكثير من المخاطر.
عندما يكون ترامب في البيت الأبيض، وحلفاؤه يتحكّمون بأوروبا، ومعه يتناغَم حكام إسرائيل، سيكون الفلسطينيون وقضيتهم في دائرة الخطر. فالمسار الذي انتهجه الرجل في ولايته السابقة كان داعماً للإسرائيليين في شكل مطلق. والمشروع الذي تبنّاه، وأعدّته مجموعة من خمس شخصيات حليفة لإسرائيل، وسَوّقه صهره جاريد كوشنير، نقلَ السفارة الأميركية إلى القدس واعترف بهذه المدينة رسمياً عاصمة لإسرائيل، وسعى إلى إقناع العرب بالتطبيع. وبالتأكيد، إذا عاد ترامب إلى البيت الأبيض، فسيعُاود النهج إيّاه، ويستكمل مسار التطبيع بضَم المملكة العربية السعودية، علماً أنها ما زالت تشترط موافقة إسرائيل على «حل الدولتين» كمدخلٍ حتمي لأيّ تطبيع.
في ظل هذه المظلة الدولية والإقليمية المتطرفة والمتصلبة التي ستتحكّم بالعالم، شرقاً وغرباً، سيكون مشروعاً طرح السؤال عن لبنان، الدولة شبه المنهارة وشبه الفاشلة. وسيكون التبدّل الأكثر حساسية هذه المرة هو فرنسا الراعية الدائمة للبنان و»الأم الحنون» التي «ولدته» في العام 1920. فأيّ لبنان ستعمل له حكومة اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبين؟ وهل سيكون لبنان «الاعتدال» و»التعايش» و»حوار الأديان والثقافات»، موضع اهتمام أحد من قادة العالم المولَعين بالتطرّف؟
لبنان «التقليدي» لا يشبه حكام العالم الذين سيغلب عليهم التطرف، سواء منهم الموجودون في السلطة حالياً أو أولئك الذين يستعدون لبلوغها. فهل سيجد أحد منهم مصلحة في إحياء هذا «اللبنان»؟
يُخشى أن يكون اللبنانيون قد أضاعوا فرص النجاة التي سنحت حتى اليوم، الواحدة تلو الأخرى، حتى وصل الشرق الأوسط والعالم إلى مرحلة ستغيب فيها كل الفرص إلى غير رجعة، حيث سيجد لبنان «التقليدي» أنه لم يعد يشبه أحداً. فهل يسقط هذا «اللبنان» أيضاً تحت وطأة التطرف؟