خريف الصحف
خريف الصحف

ناقوس في أحد - تعليق على الاحداث مع رشيد درباس - Sunday, June 9, 2024 11:10:00 PM

 
النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
 
تقليداً لهنري زغيب في عنونة حلقاته أعطيت لحلقتي اسمها هذا (خريف الصحف) بعد أن فوجئت ببائع الصحف يقول لي إن (الشرق الاوسط) توقفت عن الصدور الورقي في لبنان؛ فلم أصدق وسارعت للاتصال برئيس التحرير والكاتب المبدع غسان شربل، مستفسراً ومعترضاً، فوجدت في نبرة صوته ما يؤكد الخبر فتولاني الوجوم، والوجوم هو نوع من الصمت الحزين، ولكنه بثلات نجوم (كما يقول زياد الرحباني).
 
وأحسست أن هذا التوقف هو النقطة التي طفح بها الكيل، إذ رأيت أن الخريف الصحافي، الذي تتساقط أوراقه في أزقة النسيان ومخابىء الذاكرة، هو إعلان صريح للتنصل من جيلنا، فنحن أهل الورق وأبناؤه، وملامحنا مرسومة بالحبر، وآذاننا مبرمجة الأسماع على إيقاع تقليب الصفحات وخشخشتها، كما أن عيوننا لم تأتلف مع الحروف المزيغة للبصر، والتي تظهر بلمسة وتختفي بلمسة خاطئة، ذلك أن ذبول الورق يعمق الفجوة بيننا وبين الأبناء والحفدة، ناهيكم عن خسارة لذة بَلِّ البنان بالريق لطي الصفحة، إضافة إلى إحالة مكتباتنا إلى تقاعد الاصطفاف على الرفوف، والاستسلام إلى غبار الإهمال والسنين.
 
منذ ألفي سنة اخترع الصيني (تساي لون) الورق وقدمه هدية إلى الامبراطور (هويني) أما العرب فلم يعرفوه إلا في العام 705 ميلادية بعد فتح سمرقند، فقال الثعالبي في ذلك: " كواغد سمرقند، عطلت قراطيس مصر والجلود لأنها أنعم وأحسن وأرق."
والكاغد هو مرادف لكلمة ورق، والتي ربما تكون مشتقة من الرقة، فلماذا نحرم من رقة القراءة وحميم الحروف التي تدغدغ الأنظار والمشاعر وتكيل المعرفة بلا حساب؟
 
 من قبل تخطى المصريون الرقع والجلود، وزرعوا البردي، وكتبوا عليها تاريخهم ورسومهم، فلما تم الانتقال إلى استعمال ألياف (السليلوز) الموجودة في خلايا الجدران النباتية انتشر التصنيع وكان أول مصنع للورق في عصر هرون الرشيد، وأطلق على أصحاب هذه الصنعة (الوراقون).
 
تناوبت علينا خيبات توقف الصحف عن الصدور، منذ أن أصاب البكم (لسان الحال) ثم انطفأت (الانوار) في دار الصياد، أما الطامة الكبرى فكانت بسحب اوراق اعتماد (السفير) التي احتجبت، فكتمت صوت الذين لا صوت لهم، واضمحلت الحمامة الزاجلة البرتقالية، وانطوى طلال سلمان بحسرة صامتة، كما ضاع (نداء الوطن) ، بضياع (صدى لبنان)، فآلت (بيروت) التي كانت محبرة النهار والمساء، إلى جفاف المداد ويباس العروق.
 
كنت كلما أزور مصر أذهب إلى كشك المدبولي لأنتقي منه ما لذ وطاب، الآن ندر أن تلقى أكشاك صحف في طول القاهرة وعرضها.
 
من ذكرياتي التي أضحك عليها، أنني حين نلت الشهادة الابتدائية أخذني والدي إلى صديقه محمود الأدهمي، مؤسس وصاحب جريدة (الانشاء) اليومية الطرابلسية، لينشر لي صورة تنوه بانجازي العلمي الخطير، فابتسم الاستاذ محمود ساخراً وقائلاً، سيكون اسمك ورسمك على الجريدة عندما تصبح مؤهلاً للكتابة فيها؛ وهذا ما حدث لي بعد ذلك ولكن (الانشاء) كسواها التحقت بالطباعة الالكترونية.
 
ربما يعود هذا إلى الكلفة المرتفعة والتي تصابر عليها (النهار)، وتجاهد (الأخبار)، لكن التوقف عن إصدار (الشرق الاوسط) في بلدان الشرق الاوسط، أمر لا أجد له تفسيراً ، خاصة وأنها تضم أقلاماً مرموقة متنوعة كما أنها ضيفة يومية على معظم النخب العربية، إلا إذا كانت قد دخلت فعلاً كسواها إلى خريف الصحافة .
 
أترككم مع ايف مونتان :
 
Tu vois, je n'ai pas oublié 
les feuilles mortes se ramassent à la pelle
les souvenirs et les regrets aussi
et le vent de nord les emporte
dans la nuit froide de l’oubli
Tu vois, je n'ai pas oublié 
 
 
 

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني