الشرق
تسببت التداعيات الناجمة عن تنامي عمليات التلاعب بإشارات الملاحة فيما يعرف باسم "حرب أنظمة تحديد المواقع (GPS)"، في تخريب الهواتف الذكية، والطائرات، والسفن المدنية في 3 قارات، بحسب صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية.
وكانت القدرة على التشويش على أنظمة تحديد المواقع أو إرسال الإشارات المخادعة إلى حد كبير حكراً على الجيوش على مدى العقدين الماضيين، حيث كانت هذه الممارسات تستخدم للدفاع عن المواقع الحساسة ضد هجمات الطائرات المُسيرة أو الهجمات الصاروخية، أو لإخفاء أنشطة خاصة.
ولكن التشويش المنتظم من قبل القوات المسلحة، وخاصة في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أحدث مشكلات واسعة النطاق للسكان المدنيين أيضاً، وأصبح تأثير الإشارات المضللة واسع النطاق.
وقالت "فاينانشيال تايمز" إن تحليلها للبيانات الواردة من موقع "فلايت رادار 24" Flightradar24، المختص بتتبع حركة الطائرات، أظهر أن ما يقرب من 40 مليون شخص عاشوا في مناطق بها إشارات تحديد مواقع غير موثوقة.
وأوضحت أن هذه المناطق شملت العاصمة التركية أنقرة، حيث تتمركز قواتها المسلحة، ومساحات من ساحل البحر الأسود، وشبه جزيرة سيناء المصرية، وعدد من أكبر المدن العراقية، وحدود ميانمار التي مزقتها الحرب.
كما أثر هذا التشويش القوي على مناطق يبلغ عدد سكانها مجتمعة 110 ملايين نسمة، بما في ذلك مدن تتواجد بها منشآت عسكرية؛ مثل سان بطرسبرج في روسيا، ولاهور في باكستان، وبيروت في لبنان، بحسب الصحيفة.
حماية الأهداف العسكرية
وقال المحلل في مؤسسة المعهد الملكي للخدمات المتحدة البحثية، توماس ويثينجتون، للصحيفة، إن "الدافع الرئيسي هو الرغبة في حماية الأهداف العسكرية".
وأوضح أن "الطائرات المُسيرة والأسلحة الموجهة تميل إلى الاعتماد على النظام العالمي للملاحة عبر الأقمار الصناعية (GNSS)"، مشيراً إلى أن "إطلاق إشارة تشويش يحد من قدرتها على التنقل بشكل صحيح. فأنظمة تحديد المواقع تُعد جزءاً من النظام العالمي للملاحة عبر الأقمار الصناعية، والذي يمثل المصطلح الشامل لجميع الأنظمة العالمية للملاحة عبر الأقمار الصناعية".
وكان حلف شمال الأطلسي "الناتو" قد ألقى باللوم على روسيا في الانقطاعات التي أصابت النظام العالمي للملاحة عبر الأقمار الصناعية في أجزاء كبيرة من أوروبا، والتي أثرت إحداها على طائرة كانت تقل وزير الدفاع البريطاني.
وتسبب الصراع في الشرق الأوسط أيضاً في زيادة عمليات التلاعب في نظام تحديد المواقع في المنطقة. ويُقال إن بعض زعماء العالم، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يستخدمون أجهزة تشويش محمولة لحمايتهم أثناء السفر، بحسب "فاينانشيال تايمز".
وقالت الصحيفة، إن الإشارات الزائفة المستخدمة في التشويش، والتي تعمل من خلال إرباك أجهزة الاستقبال ببيانات مشتتة، لا تميز بين الأجهزة العسكرية والمدنية.
وحذر مسؤولون في حكومات دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا) الشهر الماضي من وقوع كارثة جوية وشيكة بعدما أجبر تعطل النظام العالمي للملاحة عبر الأقمار الصناعية رحلتين تابعتين لشركة "فين إير" على العودة في منتصف الرحلة.
وبعد شعورها بالقلق من المخاطر المحتملة، أطلقت وزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون"، مشروعاً أطلقت عليه اسم "الرخ المتناغم" لإنشاء "خريطة جوية" للتشويش، والذي يشكل مصدر قلق كبير بالنسبة للمستخدمين حول العالم، وفقاً للصحيفة.
مخاطر على المدنيين
وتحتوي جميع الطائرات تقريباً على أنظمة بديلة لتحديد المواقع، مثل الملاحة بالقصور الذاتي باستخدام أجهزة استشعار الحركة. ولكن التحول إلى الأنظمة الاحتياطية يزيد من احتمالات الخطأ.
وكادت إحدى الطائرات أن تنحرف إلى المجال الجوي الإيراني العام الماضي. وفي عام 2019، كادت طائرة أميركية أن تصطدم بجبل بعد تعرضها للتشويش، بحسب تقرير لوكالة "ناسا".
وقالت المنظمة الأوروبية لسلامة الطيران "يوروكونترول"، إن حوادث التشويش تنامت بنسبة 2000% بين عامي 2018 و2021.
وأقر الجيش الإسرائيلي في وقت سابق، بحجب إشارات نظام تحديد المواقع في إسرائيل كإجراء دفاعي في أعقاب الهجمات التي شنتها "حماس" في 7 أكتوبر الماضي، والهجمات الصاروخية التي شنتها إيران الشهر الماضي.
ويشكو سكان إسرائيل، والأردن، ولبنان من أن التشويش جعل من المستحيل استخدام تطبيقات سيارات الأجرة، أو الوجبات الجاهزة، أو تطبيقات التعارف. وقالت منظمة "أطباء بلا حدود" وجمعية العون الطبي للفلسطينيين للصحيفة، إن استمرار مشكلات الاتصال أعاق جهود الإغاثة في غزة.
وفي الأشهر الأخيرة، كانت هناك زيادة في شكل أكثر تطوراً من أشكال التشويش على النظام العالمي للملاحة عبر الأقمار الصناعية، وهو الإشارات المخادعة. وفي بعض الأحيان، ترسل السفن التي تنقل بضائع غير مشروعة إشارات زائفة لموقعها؛ للتحايل على عقوبات أو قيود تنظيمية أخرى، مثل حقوق الصيد.
وفي أبريل الماضي، تأثر ما يصل إلى 30 ألف طائرة بالإشارات المخادعة، وفقاً لتحليل أجرته شركة SkAi لبيانات شبكة "أوبن سكاي" المتخصصة في مراقبة حركة الطيران.
وقال الخبير في تدخلات النظم العالمية لسواتل الملاحة بجامعة تكساس تود همفريز "هذا وضع خطير"، وأضاف "يمكن أن يصبح الطيارون في حيرة من أمرهم بشأن موقعهم، وينتهي بهم الأمر إلى الاضطرار إلى الاتصال بمركز التحكم في الطائرة والسؤال عن الاتجاهات خطوة بخطوة.. لقد تجاوز خط الإزعاج فقط".
وتفيد التقارير أن مثل عمليات الهبوط الآلي هذه تكاد تكون روتينية في مطار بن جوريون في تل أبيب. واعترفت قوات الدفاع الإسرائيلية بحجب إشارات نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) في إسرائيل كإجراء دفاعي.
الانتحال أكثر خطورة
ولكن يبدو أن المخادعين - الذين قد يكونون موجودين على الأرض أو حتى على متن السفن الحربية - يفسدون بشكل عشوائي إشارات GNSS للسفن والطائرات القريبة من خلال بث مواقع مزيفة.
ويعتبر "الانتحال" أيضاً أكثر خطورة من التشويش، حيث يمكن للإشارات الكاذبة أن تخدع أنظمة الكشف الموجودة في العديد من أجهزة استقبال GPS.
يعتمد الشحن بشكل أقل على تحديد المواقع GNSS، لكن الخبراء يحذرون من أن الزيادة في عمليات المحاكاة في المضائق المحيطة بالبحر الأسود على وجه الخصوص - والتي من المؤكد أنها مرتبطة بالنشاط العسكري الروسي - تطرح خطر حدوث اصطدامات وحتى تسرب النفط.
وقال فرانسيس زكريا، الأمين العام لاتحاد الملاحة البحرية IALA، إن الملاحين المدربين يمكنهم التعامل بسهولة مع المشكلة، لكنه أثار مخاوف من أن الطاقم الأقل مهارة قد يعتمد بشكل كبير على الأنظمة الآلية.
ويتفق معظم الخبراء، على أنه من غير المرجح أن يكون المدنيون هم الهدف المباشر للنشاط، على الرغم من أن ميلاني جارسون، الباحثة في الحرب السيبرانية في كلية لندن، قالت إن بعض الحالات يمكن أن تمثل "استعراض العضلات" من جانب روسيا.
وبدأت الحكومات في اتخاذ موقف أكثر صرامة، بل وحتى إلقاء اللوم علناً على الجناة المزعومين. وهدد لبنان بتقديم شكوى بإسرائيل إلى مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة بشأن التدخل في النظام العالمي لسواتل الملاحة في مارس، في حين قال وزير خارجية إستونيا لصحيفة "فاينانشيال تايمز" إن بعض الحوادث كانت جزءاً من "هجوم هجين" من روسيا.
"عقوبات محدودة"
ووصف وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون، التقارير التي تفيد بأن طائرة وزير الدفاع جرانت شابس تعرضت لتشويش على نظام تحديد المواقع العالمي GPS، بالقرب من جيب كالينينجراد الروسي بأنها "مزعجة للغاية"، مضيفاً أنه "أمر غير مسؤول للغاية بالنسبة لروسيا أن تفعل ذلك".
وقد لا يكون المسؤولون قادرين على فعل الكثير، وفقاً لإليزابيث براو، الباحثة في مركز أبحاث الشؤون الدولية الأمريكي "أتلانتيك كاونسيل".
وأضافت "ليس الأمر كما لو أن الناتو سيفعل المادة الخامسة (بند الدفاع الجماعي للحلف) لأن روسيا تعرض الطيران في منطقة البلطيق للخطر. لذلك يمكنك بشكل أساسي الانخراط في هذا النوع من النشاط كما يحلو لك، لأن هناك القليل جدًا من العقوبات عليه".
ويجري العمل حالياً لإيجاد بدائل لنظام GNSS، الذي يعتبر ضعيفاً بطبيعته لأن إشاراته موجودة على نطاقات تردد مشتركة وتعمل بقوى منخفضة.
وهي تشمل نظام eLoran، وهو نظام ملاحة راديوي أرضي، وأصبحت تراخيص استخدام هذه التكنولوجيا في بريطانيا متاحة منذ أكتوبر الماضي، ولكن تم إصدار ترخيص واحد فقط، وفقاً لموقع Ofcom الإلكتروني.
وقال همفريز، إن شركات الطيران على وجه الخصوص كانت بطيئة في الاستجابة للتحذيرات، وأضاف "الأنظمة التي يستخدمونها في الطائرات الحديثة.. لا تزال لا تتمتع بالحماية الكافية ضد الانتحال والتشويش".
ولكن في حين أن التدخل في مجال الطيران يحتل العناوين الرئيسية في الوقت الحالي، فإن تكنولوجيا الشبكات العالمية لسواتل الملاحة منتشرة في كل مكان في المجتمع المدني، إذ تعتمد البنوك والسكك الحديدية وخدمات الطوارئ على النظام لتحديد التوقيت بالإضافة إلى بيانات تحديد المواقع.