جاسم عجاقة - الديار
منذ اليوم الثاني لنشوب الحرب في غزّة بين قوات الاحتلال وحركة حماس، اشتعلت جبهة الجنوب بين جيش العدو والمقاومة في لبنان. هذا الأمر أدّى إلى خسائر – لم تنته حتى الساعة – على الصعد البشرية والمادية والاقتصادية.
وكالة التصنيف الدولية «ستاندرد آند بورز» كانت من أوائل من وضعوا سيناريوهات للخسائر الاقتصادية المتوقّعة في كل من لبنان ومصر والأردن. وبنت الوكالة أرقامها على أساس ثلاثة سيناريوهات (انظر إلى الرسم البياني):
- السيناريو الأول: ينصّ على صراع يدوم بين ثلاثة وستّة أشهر (منذ 7 تشرين الأول). في ظل هذا السيناريو توقّعت الوكالة أن يكون هناك خسائر في القطاع السياحي اللبناني بقيمة 500 مليون دولار أميركي، وخسائر في الاحتياطات الأجنبية في مصرف لبنان بقيمة 2% وخسائر في الناتج المحلّي الإجمالي اللبناني بنسبة 3.3%. بالطبع هذه الأرقام لا تأخذ بعين الاعتبار الخسائر المادّية من أضرار في المنازل والطرقات والمنشآت العامة، التي يمكن أن تُخلّفها آلة الدمار «الإسرائيلية» في الجنوب كما فعلت في شمال غزّة.
- السيناريو الثاني : ينصّ عل صراع يمتدّ إلى النصف الثاني من العام 2024. وهنا الخسائر أكبر ، حيث توقّعت الوكالة خسائر في القطاع السياحي بقيمة 1.6 مليار دولار أميركي، وخسائر في الاحتياطات الأجنبية بنسبة 6% وخسائر في الناتج المحلّي الإجمالي بقيمة 9.8%. بالطبع كما في السيناريو الأول، لم تأخذ الوكالة بعين الاعتبار الخسائر المباشرة كتهديم البيوت والطرقات وغيرها.
- السيناريو الثالث: ينصّ على صراع مفتوح في الوقت مع اتساع رقعة الصراع، وهو السيناريو الأكثر احتمالًا نظرًا إلى الواقع على الأرض، حيث يتمّ الحديث عن حرب استنزاف أكثر منها حرب مواجهة، وتدخل ضمن استراتيجيات العدو الذي يعلم أن لا دعم دولي للبنان كما حصل في العام 2006. أمّا من جهة «إسرائيل»، فكلّما طال الأمر زادت المُساعدات الدولية لها. وتوقّعت الوكالة في ظل هذا السيناريو أن يكون حجم الخسائر كبير ا جدًا، مع 3.7 مليار دولار أميركي خسائر في القطاع السياحي، و13.9% تراجع في الاحتياطات الأجنبية، و22.9% تراجع في الناتج المحلّي الإجمالي اللبناني.
الخسائر المنصوص عليها في هذه السيناريوهات، تُمثّل الخسائر التي سيتكبدّها لبنان باستثناء الخسائر في البنى التحتية والمنازل، وحتى لا تأخذ بعين الاعتبار الخسائر الناتجة من خسارة المزارعين الجنوبيين لمحاصيلهم الزراعية... التحاليل السياسية والعسكرية التي ينشرها الخبراء تُرجّح بمعظمها حرب استنزاف طويلة الآمد (أي السيناريو الثالث) لا نعلم كيف يمكن للبنان واللبنانيين (خصوصا الجنوبيين) تحمّلها من دون دعم مالي خارجي.
واستطرادًا، من المتوقّع أن يكون هناك تجميد لكل العمليات الإصلاحية المطلوبة من لبنان من قبل صندوق النقد الدولي، بمعنى آخر سيستمرّ الوضع الاقتصادي والمعيشي في التآكل، وفترة السماح الجديدة التي تمّ إعطاؤها للبنان (بحسب المصادر الرسمية) للقيام بإجراءات تلجم اقتصاد «الكاش»، لن تؤدّي إلى أي إجراءات عملية على الأرض لمكافحة اقتصاد «الكاش» ومكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب ومحاربة الفساد.
وبالحديث عن موضوع الفساد وتبييض الأموال، أشارت معلومات صحافية إلى أن هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان، جمّدت حسابات ستة أفراد من موظفين سابقين في الدولة تولوا مسؤوليات في السابق، وذلك لمدّة ستة أشهر قابلة للتمديد لثلاثة أشهر أخرى، بهدف التوسع في التحقيق بشأن تورطهم في قضايا فساد وتبييض أموال.
وتقول المعلومات أن بعضًا من هذه الشخصيات محسوبة على جهات سياسية مما يطرح سيناريوهين:
- الأول : أن تتدخل الجهات السياسية لطمس الحقائق ووقف التحقيق، خصوصا أنه في مراحله الأولى.
- الثاني : أن يتمّ ترك الحريّة للمحقّقين بالذهاب إلى الأخير ، وكشف الحقائق وتحويل المذنبين إلى القضاء الذي له الكلمة الأخيرة. وهذا إن حصل نكون في بداية مرحلة جدية يتمّ فيها التخلّي عن دعم شخصيات كبيرة استلمت مناصب عالية في الدولة ، مما يعني أنه وفي حال إثبات وجود فساد، تملك هذه الشخصيات معلومات كثيرة قد تسمح بفتح ملفات جديدة. فهل نشهد مثل هذا السيناريو؟ الجواب الأكثر احتمالًا هو لا!
إلى هذا، تستمر الفوضى في القطاعات الاقتصادية حيث نشهد ارتفاعات غير منطقية في الأسعار – المُدولرة أصلًا – من دون أي عذر منطقي، ومن دون أن يكون هناك محاسبة من قبل السلطات اللبنانية وبالتحديد وزارة الاقتصاد والتجارة. وبحسب المعطيات التي يمكن استنتاجها من شراء السلع والبضائع من «السوبرماركات»، يمكن ملاحظة أن القدرة الشرائية للستين دولارا أميركيا قبل الأزمة، أصبحت توازي القدرة الشرائية للمئة دولار أميركي حاليًا! وهو إن دلّ على شيء يدل على فلتان الأسعار على كل المستويات، وليس فقط على مستوى «السوبرماركات».
الخطر في كل ما سبق وذكرناه، هو أن العوامل السياسية (أي غياب سلطة تنفيذية أصيلة والانقسام السياسي)، والعوامل الأمنية (الحرب في غزّة وعلى الحدود الجنوبية)، والفساد المستشري، كلها عوامل أدّت إلى دخول لبنان في مرحلة خطرة جدا ألا وهي مرحلة تغلغل التضخّم في الاقتصاد، مع تعظيم ناتج من غياب الإجراءات التصحيحية من قبل السلطات، وهو ما قد يؤدّي على المدى البعيد إلى استحالة سحب التضخّم من الاقتصاد مع ما لذلك من تداعيات، سواء على صعيد الاستثمارات والاستهلاك، ولكن أيضا على صعيد التنمية البشرية وزيادة الجريمة وغيرها من المظاهر التي تشهدها المجتمعات التي فيها تضخّم.