الشاعر هنري زغيب
نبيلةً كانت بادرةُ "دار المشرق" في احتفالها بنا، لِمناسبة مرور خمسين عامًا على إِطلاقنا "العقود"، سلسلةَ الكُتُب المدرسية للقراءة والقواعد. ووفيًّا كان اعتبارُها الاحتفالَ "تكريمًا سحابةَ خمسين عامًا من التعاون والعمل معًا في خدمة اللُغة العربيّة".
أَقول "احتفالَها بنا"، وأَعني "ثُلاثيَّنا" في التأْليف: الزميلَين كمال الشرتوني والياس الحداد وأَنا. والسلسلَةُ اليوم بلغَت عشرات الأَجزاء من صف الحضانة الأُولى فالمرحلة الابتدائية فالمتوسطة فالثانوية. وتشير الإِحصاءَات السنوية إِلى أَنَّ هذه السلسلة الطليعية لا تزال الأَكثر رواجًا وانتشارًا في مدارس لبنان، وحتى في بعض الدول العربية حيثما تيسَّر لها مَن يعتمدها هناك.
لم أُكملْ التأْليف مع الزميلَين، لسفَري إِلى الولايات المتحدة سنواتٍ عدتُ بعدها إِلى لبنان، وانصرفتُ إِلى أَعماليَ الأَدبية ونشاطيَ الجامعي بعيدًا عن منهج مدرسي كانا به خبيرَين فأَكْملَا السلسلة حتى قمَّتها مُدخلَين عليها أَحدثَ الوسائط التكنولوجية والإِلكترونية السمعية والبصرية، فكانا بها سبَّاقَين رائدَين بين سلاسلَ مدرسيةٍ أُخرى فيها القليلُ من القمح والكثيرُ من الزؤَان.
كان الاحتفال حاشدًا بتلامذة ومعلمين ومعلمات من عشرات مدارسَ معتمِدةٍ هذه السلسلة، وعدتُ خلاله لحظاتٍ نوستالجيةً إِلى تلك السنوات الأُولى من التأْليف مع رفيق العمر والتأْليف الصديق كمال الشرتوني، ذاتَ كنَّا نطوي السهرات لياليَ لياليَ لا تهدأ. وكان كلانا بعدُ في سلك التدريس، ونحرِص على كل كلمة في النص كي تكونَ من مستوى التلاميذ لا من قاموس الأُدباء، وندقِّق في كل تمرين كي يغذِّي ذاكرة التلامذة بمعلوماتٍ سائغةٍ تُغْني قاموسهم، وتقدِّم لهم المعاني في النصوص والقواعدَ في اللغة بتمارينَ تجعلُهم يمتلكون العربية من أَنقى مصادرها، مع التأْكيد على القيَم والتراث وبَثِّ لبنانَ اللبناني في وجدان الناشئَة.
هكذا، قبل خمسين سنة، صدَرت الأَجزاءُ الأُولى من "أَيامنا الحلوة" و"أَيام ومشاهد" و"أَيام وجنى"، قبل أَن يلتحق بنا الزميل الياس الحداد لتُكمِلَ السلسلةُ لاحقًا إِلى "عقود الأَيام" و"عقود الكلام".
ومنذ تلك السنوات الأُولى، مع الحبيب كمال الشرتوني، كان حرصُنا معًا أَن نختار نصوصًا لبنانيةً لم تكن جميعُها من مستوى الصغار، فكنا نعمد إِلى صياغةٍ فيها تُحافظ على الأَصل ولا تَخُون المتن، ثم نوقِّعها مع اعتماد "عن" فلان من الأُدباء كي يَظهَر أَنَّ النص لم يكتُبه صاحبُه أَصلًا في لغة الصغار. وكم اكتشفنا يومها أَنَّ أَدبنا اللبناني ضئيلٌ في الكتابة خصيصًا للصغار.
وكان الصديق كمال، بحِرصه على المستوى، كثيرًا ما يُعطي النُصُوص وتمارينَها إِلى معلماتٍ في المرحلة الابتدائية، يختبرْنَها مع تلامذتهنَّ، وَيعُدُن إِليه بملاحظاتٍ كنا نأْخذ بها كي نعدِّلَ في نصٍّ أَو نُغَيرَ في تمرين.
لياليَ لياليَ من التأْليف عادت إِلى ذاكرتي وأَنا في ذاك الاحتفال التكريمي الذي كان لدار التوزيع، مكتبة أسطفان، دورٌ بارزٌ في إِنجاحه بدعوة مسؤُولين ومسؤُولات بين نحو 350 مدرسة تدرِّس في هذه السلسلة التي شاعَت وشعَّت: شاعت كما رفوفُ السنونو تَعبُرُ الفصولَ والسنوات، وشَعَّت على تلامذةٍ من كلِّ لبنان نورًا لأَذهانهم وثقافتهم وزادهم المعرفي.
خمسون عامًا عبَرَت... واختصرنا في سويعات ذاك الاحتفال 50 سنةً من التأْليف زرعْنا فيها قمحًا خَيِّرًا نبتت منه، عامًا بعد عام، سنابلُ شَبَّت تَتَذَّهب في شمس المعرفة، وتُنَقِّل خيرَها بيدرًا بعد بيدر. ولعلَّ أَكثر ما أَثَّرَ بنا، كمال وأَنا ونحن خارجان من مسرح أَبو خاطر في الجامعة اليسوعية، أَن نلتقي أُمَّهاتٍ دَرَسْنَ في كُتُبنا وهُنَّ تلميذات، وها هنَّ اليوم يُدَرِّسْن فيها أَولادهُنّ.
حين غادرنا عائدَين، كمال وأَنا، كان بيننا على الطريق صمتٌ كثيرٌ يضُج فيه عمرٌ من عُمرنا صرفنا فيه معًا خمسين سنةً قطفْناها سنابلَ غبطةٍ ووفاءٍ لِمَا عاينَّاه من تأَثُّرٍ نوستالجيٍّ في ذلك الاحتفال.