جوني منيّر - الجمهورية
بقيت الحرب الأوكرانية في طليعة الإهتمامات العالمية الى حين اندلاع حرب غزة. لكن المواجهة الإيرانية ـ الإسرائيلية المباشرة الحاصلة جاءت لتتصدّر الإهتمام الدولي على حساب أولوية حرب غزة واجتياح رفح.
فبعد الهجوم الجوي الإيراني غير المسبوق على إسرائيل، دخل النزاع الدائر في الشرق الأوسط منعطفاً جديداً مع تلويح إيران بمعادلة جديدة. وبذلك تتذرّع إسرائيل بأنّها ملزمة بالردّ لكي لا تتكرّس المعادلة التي أوجدتها إيران. فالهجوم الإيراني بدّل القواعد التقليدية المعمول بها في المنطقة.
صحيحٌ أنّ واشنطن حققت نقاطاً قوية لمصلحتها في طريقة إدارة إحباط الهجوم الإيراني وفي طليعتها إبراز تفوقها التكنولوجي العسكري، إلّا أنّ ذلك لا يعني منح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو سعيه لأخذ المنطقة الى الحرب. ذلك أنّ إفلات نتنياهو من الحصار الدولي الذي كان مضروباً حوله، سيدفعه بالتأكيد الى العمل على «ترويض» الرئيس الأميركي جو بايدن المنهك على أبواب انتخابات رئاسية صعبة، بعدما كان من المفروض أن يكون هو مَن يعمل على ترويض نتنياهو.
فإسرائيل أبلغت إلى الإدارة الأميركية أنّها لا تريد أن تكون لإيران الكلمة النهائية في هذه المنازلة، أي أن تكون فيها إيران قادرة على القيام بهجوم مباشر عليها رداً على أستهدافها في سوريا. وتعالت بعض الأصوات في واشنطن والتي دعت الى الردّ من خلال ضرب المنشآت النووية الإيرانية. لكن التجارب التاريخية المتعددة تؤكّد أنّ الإدارات الأميركية على اختلافها حرصت على عدم تحويل إيران من خصم إلى عدو. وهنا تكمن مشكلة اسرائيل.
وعلى سبيل المثال، في العام 2008 طلب رئيس الحكومة الإسرائيلية إيهود أولمرت من الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الضوء الأخضر لقصف المنشآت النووية الإيرانية، وهو ما رفضه، كما ورد في كتاب نتنياهو «بيبي، قصتي». وعام 2013 كرّر نتنياهو، والذي عاد رئيساً للوزراء، من الرئيس الأميركي يومها باراك أوباما خلال زيارته لإسرائيل، وتكّرر الرفض الأميركي. وعلى رغم من تنفيذ عملية اغتيال قاسم سليماني إلّا أنّ دونالد ترامب كان يراوغ إزاء مطلب نتنياهو المتعلق بالمنشآت النووية الإيرانية، ونقل عنه قوله إنّ نتنياهو يريد محاربة إيران حتى آخر جندي أميركي. ولكن وفي اواخر العام 2020 وبعدما خسر انتخاباته حاول نتنياهو استغلال الظرف لانتزاع موافقة واشنطن على قصف المنشآت النووية الإيرانية. وبالفعل وتحت وطأة الخسارة حاول طرح الموضوع على رئيس أركان الجيوش الأميركية الجنرال مارك ميلي الذي أجاب بحنق ظاهر: «إذا فعلنا ذلك فسنغرق في حروب لا تنتهي».
ومن الواضح أنّ نتنياهو سيسعى للطلب نفسه الآن وبذريعة الردّ، وأنّ بايدن سيرفض ذلك. وقد تكون لواشنطن تبريرات كثيرة، كمثل أنّ فتح أبواب الحرب هذه ستدفع بواشنطن الى الوقوف بالكامل عسكرياً الى جانب إسرائيل. وهو ما سيعني منح حرية الحركة لروسيا في أوكرانيا، واغتنام الصين الفرصة لابتلاع تايوان. وقد يكون كل ذلك صحيحاً، إلّا أنّ ثمة ما هو غير مرئي يربط المصالح بين البلدين على رغم من الخصومة المعلنة. وإلّا فكيف يمكن تفسير هذه «المرونة» الأميركية الفائقة إزاء صادرات النفط الإيراني عبر الأسواق السوداء؟ والمعروف أنّ أموال النفط تشكّل شريان الحياة الإقتصادية الإيرانية. وليس سراً أنّ معارضي إدارة بايدن يعتقدون أنّه حتى لو تمّ إقرار قوانين تضيّق الخناق على صادرات النفط الإيرانية، فإنّ إدارة بايدن ستتحايل للحؤول دون تطبيقها فعلياً وعملياً. وفي هذا السياق أتى اتهام زعيم الغالبية في مجلس النواب لإدارة بايدن بتسامحها مع تصدير النفط الإيراني، ما رفع العائدات الإيرانية. وهو ما يعني في المحصلة أنّ واشنطن لن تسمح بردّ اسرائيلي سيكون حافزاً لفتح أبواب الحرب. ومن ضمن هذه الحسابات ربما وجّهت طهران ضربتها الجوية في اتجاه اسرائيل، في هجوم عسكري جوي هو الأول من نوعه بهذا الحجم منذ انتهاء حربها مع العراق. وبعيداً من جدل الربح والخسارة فإنّ القيادة الوسطى للجيش الأميركي كانت أخطرت إسرائيل قبل ساعات معدودة بأنّ الهدف الرئيسي هو قاعدة نفاتيم الجوية، ما دفع الجيش الإسرائيلي الى نقل طائراته إضافة الى طائرة رئيس الحكومة والمعروفة بإسم «طائرة صهيون».
وفي وقت تبدو واشنطن مقتنعة بوجوب حصول ردّ إسرائيلي لعدم تكريس المعادلة الإيرانية الجديدة، الّا أنّ «النصيحة» الأميركية كانت بوجوب أن تكون الضربة «ذكية واستراتيجية ومحدودة» في آن معاً، والابتعاد عن الردّ الانفعالي والعاطفي. ويبدو أنّ اسرائيل قد تتأخّر في ضربتها الى ما بعد إقرار الكونغرس الأميركي المساعدات المالية لها قبل نهاية هذا الأسبوع.
لكن السؤال الأهم: ماذا عن غزة ورفح؟ ذلك أنّ على نتنياهو المفاضلة ما بين الردّ على إيران ورفح، ولو أنّه يوحي بأنّه متمسك بكلا الهدفين على رغم من صعوبة الجمع بينهما. والجانب الأخطر الذي بدأ بالظهور على رغم من توقعه مسبقاً، هو بدء توظيف تداعيات حرب غزة في العواصم العربية والساحات السنّية. وقد بدأت هذه البوادر باكراً في الأردن مع مؤشرات حول تفاهمات عميقة بين إيران وتيار «الإخوان المسلمين». وستلهب هذا النزاع عناوين عدة، ولو أنّ الحافز الأساسي له هو نزاع المحاور في المنطقة، ولكن بلبوس جديد. ولا شك في أنّ هذا النزاع في حال بدأ سيتمدّد الى عواصم أخرى في إطار السعي لإرساء معادلات إقليمية جديدة.
على انّ عواصم الخليج تقف أمام معادلة صعبة. فإذا كانت سياسة «الحياد» إزاء الحرب في أوكرانيا قد نجحت وأثمرت، إلّا أنّ هذه السياسة يبدو تطبيقها اكثر صعوبة بين إسرائيل العدو المعلن، والذي بدأ مسار التطبيع معه، وإيران «العدو الخفي» والذي تتوجّس منه دول الخليج وتعتقد أنّه يريد قلب أنظمتها والسيطرة على ثرواتها.
أضف الى ذلك، أنّ السعودية التي أجرت مفاوضات شاقة ومضنية مع الإدارة الأميركية حول ثمن التطبيع مع إسرائيل وحازت على مكاسب كبيرة تضمنت برنامجاً نووياً سلمياً ورفع مستوى تسليحها ومعاهدة متقدّمة لحمايتها من أي اعتداءات خارجية، قد تجد في تمدّد النزاع خطراً يقوّض حصولها على هذه المكاسب المشروطة باعتراف اسرائيل بـ«حل الدولتين».
عدا أنّ اندلاع الحرب وتمدّدها سينسف خطط المملكة التطويرية والمعروفة بـ2030. والساحتان السورية واللبنانية ليستا في بمنأى، لا بل على العكس. وخلال الأشهر الماضية ركّز «حزب الله» جهده في اتجاه تعزيز علاقته مع الجماعات الإسلامية داخل الساحة السنّية، تحت وطأة الحرب الدائرة في غزة. فظهر الجناح العسكري لـ«الجماعة الاسلامية» مرّة بمسيرة مسلحة في بيروت، ومرات أخرى عبر عمليات عند الحدود. وبعيداً من القراءات السطحية لا بل التافهة للقوى المسيحية لانتخابات نقابة المهندسين، إلّا أنّ الإشارة البارزة كانت في الصوت السنّي. فبدا للمرّة الأولى الوهن على تيار «المستقبل»، في مقابل «مونة» أكبر لحزب الله على الصوت السنّي من خلال «الجماعة الإسلامية». كانت «بروفا» ناجحة وواعدة لحزب الله، سكر في قشورها رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل كما العادة.
هنالك مثل شائع يقول: «انتم تملكون الساعات ولكن نحن نملك الوقت». وهذا ينطبق على من اشتهر بحياكة السجاد بطول صبر.