يعوّل الكثيرون على الحركة الشعبية التي يشهدها لبنان منذ اكثر من 40 يوما من اجل التغيير والانتظام ضمن مؤسسات الدولة وقضاء نزيه يطمح اللبنانيون من خلاله الى استرداد الاموال المنهوبة والانعام بعيش كريم يضمن ابسط الحقوق المعيشية من كهرباء وماء وطبابة وتعليم وغيرها.
وما بين "الثورة" و"استراحة المحارب" لا يزال الشارع ملتهبا بالتحركات المطلبية بالرغم من اختلاف حجمها تارة ومكانها تارة اخرى، الّا انّ لا نتيجة واضحة وصلت اليها "الثورة" باستثناء استقالة الحكومة التي زدات فوق الازمة ازمة. وبالرغم من الاضاءة المركّزة من قبل مجموعات الحراك المدني وعدد من وسائل الاعلام على انّ "الثورة" عابرة للطوائف اللبنانية وهي الصفة الايجابية الابرز التي صدّرتها معنويا، الا انّ ما شاهدناه في الايام الاخيرة من احتقان في الشوارع بين مختلف الطوائف اللبنانية وضمن الطائفة الواحدة يطرح علامات استفهام كبيرة.
وامام هذه المشاهد التي زعزت الاستقرار الداخلي، والمخاوف من استعادة مظاهر الحرب الاهلية الى الواجهة من جديد، وتدخل الجيش اللبناني والقوى الامنية لفض تحركات الاطراف في عدد من المناطق والشوارع الحسّاسة؛ نسأل اين "الثورة" من هذا المشهد؟ وهل هي قادرة على الاستمرار بنفس الزخم الذي بدأت به؟
الاكيد انّ لا احد يمكنه ان يقدّم جوابا على هذه الاسئلة في الوقت الراهن. فالوقت وحده كفيل بمعرفة ما اذا كانت "الثورة" ستستمرّ. وامام هذا المفترق، الذي سيشكّل حتما منعطفا مهمّا لهذا الحراك، لم تعطِ "الثورة" نتائج ملموسة على ارض الواقع، غير تلك التي ذكرناها في السابق وبينها اسقاط الحكومة. وفي ما يلي نعرض العوامل التي قد تشكّل نقاط ضعف في الحراك القائم، أو ألغاما من الضروري العمل على تجاوزها.
1- التعميم
"كلن يعني كلن"، الشعار الابرز في الثورة والذي تحوّل الى واحد من اكثر الوسوم انتشارا على مواقع التواصل الاجتماعي ولسان المواطنين في كل لبنان. ان انعدام ثقافة "النسبية" في كلام المتظاهرين، وإصدار الاحكام من دون دلائل، والاسراع إلى التحليل والتصنيف والمزايدة والتحجيم والتنسيب اثّرت بشكل واضح على السلوك المعنوي لـ"الثورة" التي لم تجد بفم ثوارها الا الاتهامات العشوائية بشكل جماعي. الأمر الذي لم يؤدّ عمليا الى تسمية الأمور بأسمائها، أو الى فعل ذلك استنسابيا.
2- وسائل الاعلام والتجييش
لعبت وسائل الاعلام كافة دورا اساسيا في دفع الثورة الى الامام حتى تصل الى المسار المطلوب وتحقيق ما يمكن تحقيقه من مطالب وحقوق. الا انّ الهواء المفتوح الذي خصصته وسائل الاعلام المرئية كان عبارة عن شحن للنفوس وتجييش للناس بعضها ضدّ بعض من خلال الشتائم والاتهامات والغوغائية في المطالب وصناعة "قادة" للحراك بطرق غير مباشرة وذلك من دون قدرة هذه الوسائل على كبح جماح ما يبثّ عبر شاشاتها. فما كانت الأيام الاولى، والتي نقلت عبر الشاشات لحظة بلحظة، الّا تصويرا للواقع الذي ننتظره في البلاد، على أنه المدينة الفاضلة المنتظرة، لتأتي بعد حين المشاهد التي تكسر هذه الصورة، وتكسر معها بعض الآمال، فتأتي النتيجة على عكس ما كان مخططا لها سواء بقصد او بغير قصد.
3- التضخيم
ومع وسائل الاعلام يأتي المؤثرون على مواقع التواصل والمستفدون من "الثورة" ضدّ السلطة، والذين اعتمدوا "التضخيم" من اجل تحميل الثورة او الحراك اكثر مما هو في الواقع، وذلك لأغراض وطموحات شخصية حينا، ولمزيد من الشهرة أحيانا. وكان التضخيم بداية من الاعداد التي قيل في بداية الامر أنها تتخطى في الاسبوع مليونين، فإعتقد من هم في الشارع ان كل اللبنانيين نزلوا من منازلهم وقرروا الانتفاض على الواقع الذي يعيشونه الا انّ الامر لم يكن بهذا الحجم. وكذلك الامر بالنسبة الى موضوع "حلّ الاحزاب، والجمهورية الثالثة، وانتهاء العهد وسقوط الطائف". انّ سياسة التضخيم هذه حمّلت الثورة اكثر ممّا تتحمّله في الحقيقة؛ ما ساهم في انحصار عدد المشاركين في الساحات.
4- عزل الآخر والاحتقان وعدم تقبل الآراء المختلفة
ومع تبيان حقيقة ارقام المتظاهرين المشاركين في الحراك، وانّه لم يبلغ المليون الواحد، لم يفكّر غالبية المتظاهرين في الساحات والطرقات، انّهم ليسوا الوحيدين الذين يعيشون في البلد، وليسوا الوحيدين الذين يقرّرون شكل السلطة. وحتى في التصريحات التي كنا نسمعها عبر وسائل الاعلام او في التغريدات والتعليقات على مواقع التواصل، فإن المتظاهرين أي "الثوار" قد وقعوا في فخّ ما كانوا ينتقدون، غير متقبلين لفكرة وجود "الرأي الحزبي" ولجمهور آخر يتعاطى الشأن العام. وهنا لا نعطي الحقّ طبعا الى الاحزاب اللبنانية بما وصلت اليه البلد، لكنّ سياسة "النبذ والحقن" التي مارسها المتظاهرون وضعتهم مقابل شارع يفوق اعدداهم في الشوارع بالرغم ان المطالب المعيشية مشتركة بين الطرفين.
5- الثقافة السياسية
إن مطالب المتظاهرين التي تحوّلت من "معيشية" الى مطالب سياسية طالت "اسقاط النظام ورئاسة الجمهورية والمجلس النيابي" وحتى مقاطعة الجلسات التشريعية، لم تدلّ الا على انعدام الثقافة السياسية لدى عدد كبير من المتواجدين على الارض. وقد طرح الامر علامات استفهام حول ماهية فهم هؤلاء لطبيعة نظامنا والتدخلات الخارجية وكيفية تحرير الاموال المنهوبة وماهية حكومة التكنوقراط والعمل الحقيقي للأحزاب. كان حريّ بالمتظاهرين ان "يمدّ رجلي المطالب على قدر بساط المعرفة" والا تحوّلت الثورة الى فوضى عارمة "من يعرف كوعها لا يعرف بوعها".
6- "ركوب موجة الحراك" واعتداءات الاحزاب وقطع الطرقات
لا يخفى على احد مشاركة عدد من الاحزاب اللبنانية في "الثورة" بخبث وفي مقدّمها القوات اللبنانية والكتائب والحزب الاشتراكي وفيما بعد تيار المستقبل. استغلّت هذه الاحزاب غضب الجائعين وركبت الموجة لأهداف سياسية. نأووا بأنفسهم عن شعار "كلن يعني كلن" متناسين انّهم في صلب السلطة وجزء وازن من العهد الذين صوّروه على انّه فريق واحد. وفي خلال ذلك ايضا، استغلّ المتظاهرون العزّل والمنظمات غير الحكومية قوّة هذه الاحزاب للبقاء في الساحات ولقطع الطرقات التي فتحت باب المواجهة بكل متسوياتها القانونية والشعبية والسياسية مع شارع آخر يرفض قطع الطرق. وعلى عكس "ركّاب الموجة" عمدت الاحزاب الاخرى اهمّها حزب الله وحركة امل الى قمع "الثورة" بحجّة قطع الطرقات. فإذا كان جسر الرينغ مقطوعا مثلا، فلماذا شاهدنا تحطيم الخيم في ساحتي رياض الصلح والشهداء وساحتي العلم في صور وخليل مطران في بعلبك. وانطلاقا من هنا لم تعد هوية "الثورة" واضحة بين هذا الصراع.
7- المستقل غير فاسد؟
"نريد حكومة تكنوقراط... حكومة مستقلين". مطلب اجمع عليه كلّ "الثوار" وحتى عدد من الفرقاء السياسيين. لكن من قال ان الفساد يكمن في العمل الحزبي حصرا؟ ومن قال انّ المستقلّ لا يمكن ان يكون ايضا فاسد؟ نقطة لا بدّ للمتظاهرين الانتباه اليها في حال ارادوا الاستمرار في حراكهم وتوجيه بوصلتهم الى مكامن الرقابة لمحاسبة ايّ مسؤول سواء كان حزبيا او مستقلّا.
8- "المظاهر المهرجانية" في الثورة
صدّرت "الثورة" صورة جميلة الى العالم اجمع، كواحدة من اكثر التحركات المطلبية سلمية. فقد شاهدنا المسارح في الهواء الطلق و"الدي جي" وغيرها من المظاهر "المهرجانية". لكن بمقابل ذلك افتقدت الثورة طابع الجدية نحو السلطة ما اخّر في عملية التواصل بين المسؤولين و"الثوار"، مع العلم انّ كافة الساحات تقريبا شهدت حلقات حوارية تثقيفية لكنّها لم تحظ بالمشاركة المطلوبة والصدى المطلوب.
واضافة الى كلّ ما تقدّم، لا يمكن ان نغضّ النظر عن انعدام الثقة التام بين الحراك والسلطة الذي وضع الطرفين بصراع وجودي، كذلك التنازع داخل السلطة عينها والتململ في ايجاد الحلول المناسبة، وحتى التراشق السياسي الخارجي الذي اعطى الجمهور المعارض لـ"الثورة" دفعا اضافيا لرفضها.