الشاعر هنري زغيب
منذ ما بدأَ الوضعُ المالي والاقتصادي يتدهْوَر في البلاد، وراح معظم المواطنين يستنكفون عن دفع متوجِّباتهم للدولة من رُسُومٍ حكومية وفواتير رسمية، آملين أَن تعفيهم الدولةُ لاحقًا أَو أَن تقسِّطَها لهم دفعاتٍ في ما بعد، لم أَتوقَّف عن إصراري على دفع متوجباتي السنوية، لا لأَكون مواطنًا صالحًا وحسْب، بل لإِيماني بأَن الدولة التي تسُوسُها اليوم سلطةٌ فاسدة، ستعود يومًا مع سُلطةٍ صالحةٍ تعيد إِلى الدولة انتظامها وأَكون أَنا المواطن ضمن هذا الانتظام. وحين أُسدِّد واجباتي للدولة لا أُفَكِّر بمصير أَموالي التي أَدفعها ضرائبَ أَو رسومًا، إن كان سيهدُرُها مسؤُولون نصّابون، بل أفكِّر بأنني أقوم بواجبي الوطني - الـمُلزم على كل مواطن - كما المؤْمن ملزَمٌ بالواجب الديني من دون أَن يفكَّر بمصير صلواته وطقوسه.
من هنا أَنَّ الـمُحاسِبَ الـمُحلَّفَ الذي يحتسب لي سنويًّا ما لي من السوى وما عليَّ للدولة، يأْتيني كلَّ عام بلائحة وثائق يحتاجُها لاحتساب مقبوضاتي ومدفوعاتي. ولأَنني أَثقُ به وأَركُنُ إِليه، لم أَكن أَنتبه إِلى شؤُون أَرقام ما زلت منذ مطالعي لا أَهتمُّ لها، حتى لفَتَتْني قبل أَيامٍ وثيقةٌ جعلتْني أَجيرًا مستخدَمًا، فأَحسستُني عاملًا في شركة لَـمّ النُفايات، أَو أَجيرًا لدى مطعم ديلفيري، أَو مستخدَمًا في شركة أَلبان وأَجبان. ومع كل احترامي التامّ أَيَّ مستخدَم أَو أَجير أَو عامل في أَيٍّ مؤَسسة، لم أَجدْني في تلك الوثيقة معنيًّا بها، لا ككاتب أَو مؤَلف بل كمواطن تعمَّم دورَه دولتُه من دون أَيِّ اعتبار.
جاء على جبين تلك الوثيقة حرفيًّا ما يلي: "الجمهورية اللبنانية - وزارة المالية - مديرية المالية العامة - مديرية الواردات - ضريبة الرواتب والأُجور - كشْف سنوي إِفرادي بإِجماليِّ إِيرادات المستخْدَم/الأَجير"…
ها أَنا إِذَن المستخدَم والأَجير هنري زغيب. ومن لطْف الحياة أَن أَغلفة مؤَلفاتي لا ترى هذه الوثيقة حتى لا تُرغمَني عند صدور مؤَلفاتي المقْبلة على أَن أَكتُب تحت عنوان كل كتاب لي جديد: "تأْليف المستخْدَم والأَجير هنري زغيب".
طبعًا، إِذ أَقول هذا بمرارةٍ ساخرة، لا أَقصد الطبقية في تصنيف المواطنين، ولا تخصيصَ الأُدباء والشعراء والفنانين المبدعين بوثيقة معيَّنة لهم. لكنَّ كل هذه الخلطة الإدارية الجافة العاقَّة يمكن تلافيها في استبدال "كشْف سنوي إِفرادي بإِجماليِّ إِيرادات المستخْدَم/الأَجير" بعبارة: "كشْف سنوي إِفرادي بإِجماليِّ إِيرادات المواطن أَو المواطنة" فيتساوى الجميع أَمام القانون والمحاسبة والواجبات من دون تخصيص الوظيفة أَو المهنة أَو الوضع المهني لكل مواطن… ذلك أَنَّ كلمة "أَجير" تجعله تابعًا، خاضعًا للزبائنية السياسية، مستزلِمًا لزعيم القبيلة، بينما كلمة "مواطن" تجعله مستقلًّا في كيانه، حرًّا من أَيِّ تبعيَّة.
هذه الصدمة من كون الأَديب، في نظر الدولة، مستخدَمًا أَو أَجيرًا، تأْخذُني إِلى حادثة جرت قبل نحو نصف قرن، حين قرر الشاعر السنغالي وعضو الأَكاديميا الفرنسية ليولوبد سيدار سنغور زيارةَ لبنان، وطلب من مرجع حكومي كبير دعوة أُدباء وشعراء لبنانيين إِلى السراي الحكومي خلال حفلة استقباله كرئيس جمهورية السنغال، فطلب ذاك المرجع الحكومي من صديق له أَن يدعو إِلى احتفال السراي بعض الأُدباء والشعراء لأَنه يجهلهم.
هذه مسطرة من جهل أَحد رجال الدولة أَركان الإِبداع في البلاد، لانصرافه فقط إِلى أَشباهه من "بيت بو سياسة" الذين يعج بهم البلد. ومع هذه المسطرة من المسؤُولين، لا عجب أَن يكون المواطن في نظرهم مستخدَمًا أَو أَجيرًا حتى لو لم يكن موظَّفًا في أَيِّ موقع، وحتى لو كان اسمه عاصي الرحباني أَو منصور الرحباني أَو مصطفى فروخ أَو سعيد تقي الدين أَو سعيد عقل.