ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الاحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي عاونه فيه المطرانان سمير مظلوم وانطوان عوكر ومشاركة عدد من المطارنة والكهنة والراهبات، في حضور النائب فريد البستاني ، السفير جورج خوري، قنصل جمهورية موريتانيا ايلي نصار، وحشد من الفاعليات والمؤمنين.
بعد الانجيل المقدس، القى الراعي عظة بعنوان: "لـمّا رأى يسوع إيمانهم، شفى المخلّع نفسًا وجسدًا" (راجع مر 2: 5 و 11)، قال فيه: "الجوّ جوُّ إيمان عندما شفى يسوع ذاك الرجل المخلّع (المشلول) الممدود على سريره. شفى نفسَه أوّلًا بمغفرة خطاياه، ثمّ شفى جسده بكلمة واحدة: "قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك". وكان يسوع في ذاك الحين يخاطب الجمع الغفير بكلمة الله التي تولّد الإيمان في نفوس سامعيها بشوق. ويبدو أنّ الرجال الأربعة كانوا من الذين آمنوا بسماع الكلمة. فحملوا إليه الرجل المشلول في بلدتهم، وكلّهم إيمان بأنّه سيشفيه. ولـمّا لم يتمكّنوا من الوصول إليه بسبب كثرة الجمع، صعدوا ونبشوا السقف ودلّوا السرير والمشلول عليه. "فلمّا رأى يسوع إيمانهم، قال للمشلول "مغفورة لك خطاياك"، ثمّ "قم، احمل سريرك واذهب إلى بيتك"(مر 2: 5 و 11). فوُلد ذاك الرجل من جديد نظيفًا من خطاياه، ومعافى من شلله. فلنذهب نحن أيضًا إلى طبيبنا السماويّ يسوع المسيح، إلى نعمة كلامه وسرّي التوبة وشفاء المرضى. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة التي يتجلّى فيها سرّ الإيمان، ومن ينبوعها ننعم بمغفرة خطايانا، من خلال الخدمة الكهنوتيّة. وفيما نحن نصلّي، مثل سائر المسيحيّين في جميع الكنائس والرعايا، إنّما نحمل حاجات أبناء الكنيسة وبناتها إلى أمام العرش الإلهيّ، كما فعل الرجال الأربعة الذين حملوا ذاك المخلّع وطرحوه أمام يسوع، فنالوا مبتغاهم. وفيما أرحّب بكم جميعًا، أوجّه تحيّةً خاصّة إلى عائلة عزيزنا المرحوم شفيق حنّا القسّيس الذي ودّعناه بكثير من الأسى منذ شهر، مع زوجته وابنه وبناته وأشقّائه وشقيقتيه وسائر أنسبائه وأهالي بلدة عجلتون الأعزّاء، وأعضاء نقابتي الشحن والنقل في لبنان اللتين كان يرئسهما. إنّنا نصلّي في هذه الذبيحة الإلهيّة لراحة نفسه ولعزاء عائلته وذويه وسائر أحبّائه".
وتابع: "يمثّل الرجال الأربعة الكنيسة التي تحمل بإيمانها وصلاتها جميع الناس إلى أمام عرش الله. ويمثّلون الجماعة المصليّة في العائلة أو في الكنيسة، التي تتشفّع وتقيم صلاة التذكارات، كما في القدّاس الإلهيّ. ويمثّلون الكاهن الذي اختير من بين الناس وأقيم لدى الله من أجل الناس (عب 5: 1) والذي بصلاته الشخصيّة يحمل، كوسيط يجسّد الوسيط الوحيد بين الله والناس، يسوع المسيح، حاجات أبناء الرعيّة وبناتها وسواهم أمام عرش الله. ويمثّلون الرهبان والراهبات والنسّاك الواقفين حياتهم على الصلاة باسم الكنيسة وأبنائها. ولهذا نقول إنّه بفضل هذه الصلوات، هي يد عناية الله التي تحمينا وتقود مجرى حياتنا والتاريخ. ويمثّل الرجل المخلّع ليس فقط كلّ مقعد أو مشلول أو صاحب إعاقة، بل أيضًا كلّ شخص يعيش في حالة الخطيئة من دون أن يتوب عنها أو يقرّ بها ويلتمس مغفرتها من الله بواسطة كهنة الكنيسة الذين أعطاهم المسيح الكاهن الأزليّ سلطان الحلّ والربط.. حالة الخطيئة تشلّ عقل الإنسان فينحرف عن الحقّ، ويعيش في الباطل والكذب. وتشلّ إرادته فينحرف عن الخير، ويعيش في فعل الشرّ. وتشلّ حريّته فينحرف عن قاعدة اختيار ما هو في إطار الحقّ والخير والجمال، ليعيش في حالة فلتان عن القاعدة الأخلاقيّة. وتشلّ ضميره فيخنق صوت الله في أعماق نفسه، ويتيه في سماع نزواته وأمياله المنحرفة وأنانيّته ومصالحه الرخيصة. وتشلّ قلبه فينحرف عن المشاعر الإنسانيّة، ويصبح قلبًا من حجر فاقد الحبّ والحنان والرحمة"..
أضاف: "إنّ مشاكل العالم باستسهال القتل والحرب والدمار، وتشريد المواطنين الأبرياء وجعلهم عرضة للجوع والعطش والمرض والتعب، متأتيّة كلّها من حالة الخطيئة. هذا ما نشهده في حرب الإسرائليّين على غزّة مثلًا، وفي مأساة الشعب الفلسطينيّ، ونحن نُدينها أشدّ الإدانة، ونرفض صمت دول العالم خوفًا على مصالحهم، مضحّين بشعب محروم من أرضه، ومن حقّه بدولة خاصّة به وفقًا لقرار 181 لمنظمّة الأمم المتّحدة المصوّت عليه في 29 تشرين الثاني 1947 بشأن قسمة فلسطين إلى دولتين: عبريّة وعربيّة وتحديد حدودهما. إنّا نشجب بشدّة حرب الإبادة الجارية في غزّة ونطالب العالم بإيقافها. ونحن في لبنان نبتغي عدم الإنزلاق في هذه الحرب العمياء والحقود، وحماية الجنوب والمواطنين، والذهاب على الفور إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة من أجل إنتظام المجلس النيابيّ والحكومة وسائر المؤسّسات الدستوريّة. من هذا المنطلق ننظر بكثير من الإيجابيّة إلى مبادرة "تكتّل الإعتدال الوطني"، وإلى مساعي "لجنة السفراء الخماسيّة" راجين للإثنين النجاح، وشاكرين لهم على الجهود والتضحيات. كم نحن بحاجة إلى إيمان أولئك الرجال الأربعة الذين اعتبروا أنّ المخلّع أهمّ من سقف البيت، وأنّ يسوع قادر أن يشفيه من شلله، وبعدئذٍ هم أنفسهم يصلحون السقف ويعيدوه إلى حالته الأولى! هؤلاء الرجال علّمونا أنّ كلّ شيء في الدنيا هو للإنسان، لا الإنسان لها؛ وعلّمونا كيف نضحّي بالمصالح الشخصيّة في سبيل الخير العام. لولا إيمان هؤلاء الرجال، لـما كانت آية الشفاء المزدوج لذاك المخلّع: لقد شفاه يسوع من شلله الروحيّ أي من خطاياه أوّلًا، وهذا هو الأساس في رسالته الخلاصيّة، وشفاه من شلل جسده. فظهر يسوع للعالم أنّه "طبيب الأرواح والأجساد". فلنلجأ إليه بإيمان الرجال الأربعة، ونسأله نعمة الشفاء من الشللين".
وقال: " في اليومين الثامن والتاسع من شهر آذار الجاري، كان احتفلان: الأوّل، يوم المرأة العالميّ، والثاني، عيد المعلّم. إنّا نوجّه لكلّ امرأة ولكلّ معلّم، تهانينا بالعيد، مع التعبير عن الشكر لهما وأطيب التمنيات. نقول شكرًا للمرأة الزوجة والأمّ والأخت والمعلّمة والعاملة والممرّضة والموظّفة والمسؤولة في الدولة والعمل السياسيّ والمريضة والمعوّقة والمكرّسة لخدمة المحبّة؛ ونعلن تضامننا معها في كلّ ما يعود إليها من حقوق وواجبات في الكنيسة والمجتمع والدولة. لقد أنشأنا سنة 2012 في الدائرة البطريركيّة "مكتب راعويّة المرأة" الذي نشر في شهر أيلول الماضي 2023 وثيقةً بعنوان: "دعوة المرأة ورسالتها في تدبير الله وحياة الكنيسة والمجتمع". وفيها ثلاثة فصول حول: التحديات، الثوابت، السياسات والتوجهات. نأمل أن تصل إلى مجتمعنا، ونحن نعمل لهذه الغاية. وأنشأنا في بداية هذا العام "مكتب راعويّة الأشخاص ذوي إعاقة" وقد بدأ نشاطاته بالتنسيق مع المؤسّسات المعنيّة بهؤلاء الأشخاص، وبتحديد إطار نشاطاتها لصالح ذوي الإعاقة. وفي عيد المعلّم يسعدنا أن نحيّي كلّ معلّم ومعلّمة في مدارسنا الرسميّة والخاصّة وفي مدارسنا الكاثوليكيّة وفي المدارس المجّانيّة. ونقول لهم: أنتم نجاة لبنان من الأميّة القاتلة، وأنتم تهيّؤون الأسس لدخول الجامعات، حيث بفضل المحاضرين فيها والمحاضرات يتخرّج طلّابنا بأرفع المستويات العلميّة، على ما تشهد الجامعات في العالم التي يواصلون فيها اختصاصاتهم. كونوا على ثقة، أيّها المعلّمون والمعلّمات، أنّ الكنيسة بجانبكم، تعرف معاناتكم وتدعم مطالبكم. إنّها معنيّة بالمحافظة في آن على المدرسة والمعلّم والطالب والأهل. ونرجو أن نتجاوز الأزمة الإقتصاديّة والماليّة بالتعاون والتضامن. ومعكم نرفع الصوت إلى المسؤولين السياسيّين لكي يخرجوا من بوتقة مصالحهم الشخصيّة والفئويّة وينهضوا بالبلاد سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا. فهم أنفسهم مسؤولون عن حالة الشلل في الدولة ومؤسّساتها. فيا ليتهم يتواضعون ويقرّوا بأخطائهم ويصحّحوا أداءهم ليسلم لبنان واللبنانيّون".
وختم الراعي: "فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، من أجل شفائنا، وشفاء جميع الناس من الشلل الروحيّ والأخلاقيّ، ومن أجل شفاء المصابين في أجسادهم، وطبيبنا القدير واحد هو ربّنا يسوع المسيح فادي الإنسان ومخلّص العالم. له المجد والشكر مع الآب والروح القدس الآن وإلى الأبد، آمين".
بعد القداس، استقبل الراعي المؤمنين المشاركين في الذبيحة الإلهية.