النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
بالإضافة إلى عبقريته الفذة، كان أينشتاين يتمتع بخفة الظل ولاذع التعليق. ولمّا خرج على العالم بنظرية النسبية، شنَّ عليه الفلاسفة الألمان النازيون هجومًا صاعقًا، خاصةً وأنه ينتمي إلى الديانة اليهودية. ومرةً، سأله أحد الصحافيين كيف يعرِّف النسبية بكلمات يفهمها الناس العاديون، فأجاب بلهجة ساخرة: النسبيةُ أن تجلسَ على معقد مع حبيبتك في حديقة لمدة ساعة، فتحسبَ الساعة دقيقة، أو إلى موقد النار لمدة دقيقة، فتخالَها ساعة.
من قبله قال النابغة الذبياني مخاطبًا ابنته أميمة:
كِليني لهمٍّ يا أُمَيمَةُ ناصِبِ
وَلَيلٍ أُقاسيهِ بَطيءِ الكَواكِبِ
وعن ثالثِ لذاتِه قال طرفةُ بنُ العبد:
وتقصير يوم الدجن* والدجن معجب
ببهكنة** تحت الخباء المعَّمدِ
(*الدجن هو اليوم الغائم، و**البهكنة الصبيّة الجميلة)
وعلى قاعدة النسبية لآينشتين، بنى أوبنهايمر مشروع القنبلة النووية الذي تنصّل منه أينشتاين قائلاً: أنا اكتشفت أنّ الكتلة والطاقة شيء واحد، ولكن سواي هو الذي توصّل إلى استعمال جزء من الكتلة لإنتاج طاقة هائلة.
هذه المقدمة أخذتني إلى أننا نحتاج لآينشتاين جديد من أجل نظرية جديدة تفسّر اتحاد الزمنين النفسي والواقعي في بلد واحد، وعلى شعب واحد، إذ إننا في لبنان، ومنذ ما يقارب نصفَ قرن، نقبعُ فوق الصفيح الساخن، من دون أن تتاح لنا برهة جلوس مع الحبيبة على معقد في حديقة الصنائع. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن زياد الرحباني في إحدى مسرحياته، قبل أربعين عامًا قال: يطمئنّ الناس إلى الجلوس على البنوك الخضراء في حديقة الصنائع، وتأمن ظهورهم بالاستناد إليها، لكنني أحذّرهم من هذه العادة الخطرة، لأن الاستسلام لهذه البنوك محفوف بمخاطر إفلاسها، فعلى أي شيء بعد هذا سيستندون؟
في بداية الحرب الأهلية (وهذا تعبير مختلف عليه)، وقعنا في خديعة الزمن النفسي، وخلنا إن القدس على مرمى خطاب وبندقية، كما قال نزار قباني (صارت فلسطين على أمتار)، وعانى اللبنانيون في احترابهم العقيم من بريق التحاليل السياسة، فوجد لبنان نفسه، يضع قضه وقضيضه على طاولة روليت شديدة الخبث، شخصت أنظارنا إلى دورانها حتى أصبحنا في دوامة الاجتياحات الإسرائيلية والقصف الممنهج، واستمرّ هذا إلى التحرير، (وهو لفظةٌ مختلف عليها أيضًا)، إذ دخلت عبارة "مزراع شبعا وتلال كفرشوبا"، بالإضافة إلى الشعار الأصلي عن تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.
الخمسة الشهور الماضية قاسية جدًّا على لبنان وكارثية على فلسطين، فيما الآلة الإسرائيلية المدمرة تجمع الزمنين النفسيَّ والمادي في حرب واحدة، مدججةً بتأييد أميركي تخطى حد المشاركة إلى العداوة الفاقعة، ومصانةً بصمت القبور، بعد أن أصيبت اللغة العربية بالبكم ما خلا بعضَ عبارات الحب والبكاء، وفي هذا يقول خليل حاوي:
غير أن الحب لم ينبت من اللحم القديد
غير أجيال من الموتى الحزانى،
تتمطى في فم الموت البليد.
أحدّثكم من مرارة أتنفسّها شهيقًا وزفيرًا، ومن حزن على أفواج قدموا لنا موتهم فلم نستثمره في الحياة، ومن ندمٍ على ضوء رؤية متأخرة كانت جلية فأشحنا عنها وأقول: إن لبنان بلد ثمين... ودولة ثمينة، ومشكلته ليست بتعدد طوائفه، فالرواد المسيحيون اللبنانييون أول من أسس للعروبة بمعناها النقي، من أمين الريحاني إلى قسطنطين زريق ومارون عبود، ومن قبل هؤلاء كان حماة لغة العرب، البساتنةُ واليازجيان والشدياق العظيم، ولفكرهم يعود الفضل في حركة التحرير من الهيمنة العثمانية. لكن مشكلة لبنان الحقيقية هي أن أهله لم يستطيعوا حتى الآن تأسيس منظومة شعبية وفكرية وسياسية تضع حدًّا لاسترهانه في سوق حروب الآخرين على أرضنا، وهذا تعبير مختلف عليه أيضًا وأيضًا.
كثيرًا ما يكون الزمن النفسي مخادعًا، ولو لذَّتْ لصاحبِه متعتُه. لكنَّ الأدهى أن يصير مضيَعَةً للزمن الحقيقي. وفي هذا الإطار تحضرني قصة ذلك الاجتماع الطويل الذي عقدناه في مجلس الوزراء برئاسة الرئيس السامي الاحترام لمناقشة مسألة النفايات الصلبةِ. فلما انتهينا بعد سبع ساعات إلى نتيجة عقيمة، التفت إلي الوزير النقيب رمزي جريج وقال بابتسامته الساخرة: نقاش حلو ومفيد تعلّمنا منه الكيمياء والجيولوجيا والتخمير والتدوير لولا أن فاحت من بعض رائحة النفايات.