جوني منيّر - الجمهورية
لم تكن زيارة وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان الى بيروت لِتشكّل مفاجأة بالمعنى الحقيقي للكلمة. ففي الحقبة الأخيرة كانت زيارات عبد اللهيان الى العاصمة اللبنانية متوقعة كلما تقاطرت زيارات كبار المسؤولين الغربيين، للدلالة على الحضور والنفوذ الإيراني في لبنان.
لكنّ الجديد في زيارة الوزير الإيراني هو ما حَمله كلامه من مواقف مختلفة أقلّه عن تلك التي اعتاد على إطلاقها منذ اندلاع الحرب في غزة واشتعال جبهة جنوب لبنان. فعوض اللغة «الحربية» التي دأب على استخدامها، جاءت مفرداته هذه المرة تفاوضية وتسووية عبر الإشارة الى أن الحل هو بتسوية سياسية لا بالحرب وأن المنطقة تتجه نحو الإستقرار، كاشفاً عن تواصل مع الولايات المتحدة الأميركية التي طلبت من طهران التدخل لدى «حزب الله» لمنع توسّع النار في الجنوب.
والاستنتاج الأولي الذي يمكن الخروج به بأنّ قناة التواصل ما بين واشنطن وطهران أنتجت تفاهماً أولياً ما يزال بحاجة لإقناع الحكومة الإسرائيلية به، وهو ما تعنيه إشارته بأن نتنياهو يسعى لأخذ البيت الأبيض «رهينة له» والذي عليه أن يختار بين أن يبقى رهينة أو يتطلّع الى الحل السياسي.
واللافت أكثر أنه لمّح الى أن لبنان يشكل جزءا من التسوية المفترضة. فمع وصوله الى مطار بيروت، أعلن أن أمن لبنان من أمن إيران، ولاحقاً أبدى اطمئنانه الى أن اسرائيل لن تهاجم لبنان وهو ما يوحي بوجود ضمانات في هذا المجال، ولو أنه استتبعَ ذلك بالقول انّ أي هجوم واسع النطاق على لبنان «سيكون اليوم الأخير لنتنياهو»، مع العلم أنه في السابق كان يستخدم تعبير «ستكون نهاية إسرائيل».
إنّ فك شيفرة كلام عبد اللهيان لا يبدو صعباً، فهو يتحدث عن تفاهمات واسعة جرت بنشاط في الكواليس التفاوضية بين واشنطن وطهران طوال المرحلة الماضية وفي عز اشتعال حرب غزة. كذلك، فإن كلام وزير الخارجية الايراني يعزّز الإعتقاد بأنّ مواجهات البحر الأحمر وتبادل القصف في العراق وسوريا وشمال الأردن كان أقرب ليكون تفاوضاً بالنار منه مواجهة حقيقية وفعلية.
لكن اللافت أن وصول عبد اللهيان الى بيروت تزامَن مع بلوغ الإعتداءات الإسرائيلية مدى جديداً وصل الى العمق وطالَ النبطية وشمال صيدا. قد تكون تلك العمليات محض صدفة تطلبتها الظروف الأمنية، وقد تكون رسالة ميدانية.
وتحليل كلام عبد اللهيان جاء ليُطابق معلومات ديبلوماسية يجري تداولها على نطاق ضيق جداً حول توصل الإدارة الأميركية الى تسوية كاملة متكاملة للمرحلة المقبلة مع إيران حول المنطقة، وأن لبنان جزء منها. وهو ما يفسّر الزيارة السريعة التي قام بها الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين الى إسرائيل منذ أسابيع معدودة.
وهذه المعلومات تتحدث عن ترتيبات المرحلة المقبلة في الجنوب لناحية تطبيق القرار 1701 وتعزيز وضع الجيش إضافة الى تفاصيل أخرى جرى طرحها بطرق وقنوات مختلفة. لكنّ الجديد ما لَمّحت إليه أوساط ديبلوماسية بوجود ملحق يتعلق بالملفات الداخلية اللبنانية، لا سيما بإعادة تكوين السلطة.
لكن التطورات اللاحقة أظهَرت وجود عقبات كبيرة أمام إنجاح ولادة هذه التسوية بشقيها الإقليمي واللبناني.
أولى هذه العقبات تمثّلت برفض الحكومة الإسرائيلية السير بها. لا بل بَدا أن نتنياهو نجح في نصب فخ ما أدى الى تطيير إتفاق باريس حول الهدنة وتبادل الأسرى. وظهر وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن في موقع الضعيف والمُرتبك. وحاول الرئيس الأميركي جو بايدن إنقاذ مبادرته بانتقاده الحكومة الإسرائيلية جهاراً واعتبارها أنها تجاوزت الحدود في ردها، لكنّ نتنياهو أعلن بعد ساعات التحضير لمعركة رفح ونيّته استدعاء الإحتياط الذين جرى تسريحهم منذ مدة قصيرة.
وبغضّ النظر عمّا إذا كان نتنياهو جاداً في الذهاب الى مذبحة جديدة ستُشعل الرأي العام الدولي ضده أم أنه يناور لتحسين أوراقه التفاوضية وتعزيز شروطه، إلا أنّ الثابت هو أن إدارة بايدن بَدت ضعيفة وفاقدة لسطوتها وقدرتها على تثبيت الإتفاقات.
وهي صورة مكررة لما فعله نتنياهو بالرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في العام 2016. يومها، طار نتنياهو الى واشنطن وتحدّى وهاجم أوباما من داخل الكونغرس الأميركي حيث ألقى خطابا قويا. وقتذاك كان أوباما يمضي آخر ولايته في البيت الأبيض تماماً كما هو الشعور الآن بأنّ بايدن، الذي يتلقى ضربات داخلية مُتلاحقة وآخرها عدم أهليته ذهنياً وعقلياً، لم تعد فرص التجديد له كبيرة، وأنه من الأجدر الانتقال الى صف الجمهوريين وانتظار صدور نتائج الإنتخابات بعد بضعة أشهر. وهذا هو الموقف الذي اتخذه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي بَدا واضحاً أنه يفضّل الانتظار قليلاً والتفاوض حول أوكرانيا مع عودة ترامب الى البيت الأبيض.
صحيح أنّ الظروف الداخلية أضعَفت موقف بايدن وأربكت إدارته، لكن هذا لا يعني أنّ قدرات واشنطن أصبحت مشلولة. في أي حال من البديهي طرح التساؤلات حول إمكانية تمرير تسويات إقليمية بهذه الأهمية في ظل إدارة تعاني وحكومة يمينية إسرائيلية لم تَستسِغ يوماً لا أوباما ولا بايدن.
وليست المشكلة الاميركية الداخلية هي وحدها من تقف بوجه تمرير التسويات، فهنالك الشارع الإسرائيلي الذي ما يزال يرفض وقف الحرب ولو على حساب إطلاق أسراه رغم تجاوز الحرب الأربعة أشهر، وهي سابقة لم يكن أحد ليتوقّعها. لأنّ الاسرائيليين، وخصوصا أولئك الذين يقطنون بالقرب من غزة والحدود مع لبنان، يرفضون وقف الحرب الآن. وهذا ما جعل معارضي نتنياهو يهاجمونه لعدم كفاءته وليس أبداً لمطالبته بوقف الحرب. كما أن نتنياهو واثق بأن الولايات المتحدة الأميركية ستلحق باسرائيل ميدانياً في أي قرار ستتخذه وليس العكس، أي أنّ إمدادات الذخائر والاسلحة ستبقى تتدفّق خصوصاً أن المرحلة الأميركية هي مرحلة انتخابات محشورة جداً.
وكذلك بالنسبة للاتفاق الجانبي حيال جنوب لبنان، فثمة عقبات أكبر. وأولى هذه العقبات ما ردّدته جميع الوفود الأوروبية التي زارت لبنان بأنّ اسرائيل تحضّر جدياً لتوسيع ضرباتها العسكرية في لبنان حتى لو تدحرجت الأمور باتجاه الحرب. والكلام الأوروبي جاء من باب الحرص لا التهديد. وجاء تطور الاستهداف الاسرائيلي باتجاه العمق اللبناني ليضع علامات استفهام غامضة.
أما العقبة الثانية فجاءت من السعودية التي أبدَت رفضها الحاسم لأيّ مقايضة بين الجنوب اللبناني وملف إعادة تكوين السلطة. وللسعودية تأثير كبير ووازن في ملف التسوية اللبنانية، فهي تحمل مفتاح إعادة إنعاش لبنان اقتصادياً، وفي ظل معارضتها فإنّ أي دولة خليجية لن تغامر وتمد يدها، وشواهد الأمس القريب عديدة.
والسعودية باتت وجهة رئيسية في زيارات المسؤولين الأميركيين للمنطقة، وهو ما يفسّر بأنها عنصر ثابت من ركائز السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، سواء بالنسبة لغزة أو لتأمين البحر الأحمر أو بالنسبة للبنان. وهذه السياسة تدارك لخطأ ارتكبه بايدن في بداية ولايته عندما أرسل اشارات سلبية تجاه الأمن الدفاعي السعودي مع نقل منظومتها الدفاعية الجوية من الخليج الى شرق آسيا في وقت كانت الأجواء السعودية تعاني من الصواريخ الحوثية. يومها تحرّك محمد بن سلمان وعقد صفقات مفاجئة مع الصين وروسيا، وعَمدَ الى مهادنة إيران.
أما العقبة الثالثة فهي دولة الفاتيكان التي تحركت وفق أسلوبها الخاص أي من خلال كنيستها في الولايات المتحدة حيث للكاثوليك حضور كبير، وهو كان مؤثرا وحاسما لصالح بايدن في الانتخابات الرئاسية الاميركية السابقة. وفي هذا الإطار يمكن تفسير الكلام العالي السقف للبطريرك الماروني في عظاته الأخيرة، فهو يعكس القلق ممّا يجري حياكته في كواليس المفاوضات.
ووفق ما سبق، بَدا أن العقبات الكبيرة التي ظهرت قد تؤدي الى إجهاض الطبخة، واستتباعاً فإنه يمكن تَحسّس هذه الخشية من كلام عبد اللهيان أيضاً. ذلك أنّ الديبلوماسية الإيرانية لم تَعتد على التحدث بوضوح عن وجود تسويات، وأنه ربما لخشيتها من إجهاض ما حصل عمدَ وزير الخارجية الايراني الى التحدث بهذه الطريقة. خصوصاً عندما أشار الى نية نتنياهو أخذ البيت الأبيض كرهينة.
وأخيراً وليس آخراً، ثمّة من يعتقد بوجود قوى أساسية داخل مراكز صنع القرار الأميركي ليست موافقة على جوانب عدة من التسويات الجاري صياغتها، وهي لا تستبعد أن يكون الفريق المعاون لهوكستين مُستاء من التسريبات الحاصلة رغم الحرص على إحاطتها بالكتمان حتى بعيداً عن العديد من دوائر وزارة الخارجية.
ما يعني أن الاسابيع المقبلة قابلة لأن تختزن الكثير من المفاجآت، في وقت ينقل فيه الإعلام الإسرائيلي عن نتنياهو قوله إنّ أمام إسرائيل شهرا واحدا فقط لإكمال عملياتها العسكرية قبل بدء شهر رمضان في منتصف آذار المقبل.