الشاعر هنري زغيب
بَلَغَني قبْل أَيامٍ أَنَّ الوقْت في الأَلمانية مؤَنَّث، وهو أَبلغُ رمزٍ لتأْكيد الخصوبة بإِخصابه في العمل والإِنتاج كي نَستولِدَهُ نتاجًا ذا قيمةٍ وفائدة. هكذا: كما يُخصِبُ الرجلُ المرأَةَ فتحبَلُ بجنينٍ تلِدُهُ طفلًا حيًّا، هكذا يُخْصِبُ الإِنسانُ لحظةَ الوقْت فتلِدُ له عملًا جديدًا، أَو نشاطًا عميدًا، أَو خَلْقًا مفيدًا يبقى لجيله وبعدَه لأَجيال.
غير أَنَّ هذا لا يَــتِــمُّ إِلَّا باستـثْمار الوقْت، كلِّ الوقْت، كاملِ الوقْت، في الإِخصاب المتواصل عطَاءً أَو تَلَقِّيًا. فأَنْ نُعطي نكونُ نُخْصِب للآخرين، وأَن نتلقَّى نكونُ نُخصب لنا، لذاتنا، بمعرفةٍ، بمعلومةٍ، بفكرةٍ، حتى نزدادَنا ثقافةً وإِدراكًا واقتبالَ كلِّ جديد.
كيف نُخصِب وقْـتَنا؟ نُخصِبُه بأَلَّا نُضيِّعَه في الهدْر المجاني، والهذَر الإِخواني، وصَرْفِهِ في تُرَّهاتٍ بلا فائدة، وأُويقاتٍ بلا طائلةٍ ولا نتيجةٍ ولا اكتسابٍ ذهْنيٍّ جديد. وما أَكثر ما أَرى حولي ممَّن لا قيمةَ عندهم للوقْت، ولا يَشعرون أَنه فيهم بل كأَنه يَسيرُ حدَّهم حتى كأَنْ لا علاقة لهم به، فلا يتنبَّهون إِلَّا وعمرُهُم انصرَم، وداهمهم هَوْلُ الفَراغ والخَواء، ولا فرصة لهم بعودة الوقْت إِلى الوراء. ذلك أَنْ ليس للوقت وقتٌ يُضيِّعه. والإِنسان المنتِجُ الفاعلُ المثمرُ الخصيبُ هو الذي لا وقت لديه لإِضاعة الوقْت، ولا وقتَ لديه لِـمَن لديهم وقْتٌ يَهدُرونه على التُرَّهات.
ومع التقاط هنيهاتِ الوقْت، يتوازى احترامُ التوقيت والمواعيد. فالموعد ذو تحديد، والتوقيت ذو حدود. ومَن لا يَشعر بالوقْت يُلاحقه، يُمضي عمرَه بدون نتيجة ولا جنى. من هنا استثمارُ الوقْت، دعوةً أَو التزامًا، في البدْءِ على الوقْت، والحضورِ على الوقْت، والوصولِ على الوقْت، والمغادَرةِ على الوقْت، واحتسابِ الوقْت الجوهريِّ الثمين في كلِّ ما نقومُ به سواءٌ لنا أَو للسوى.
حتى التسليةُ العابرة لها وقتُها، على أَن نجْني بها ما لا يكون عابرًا، فنقطِفُ منها ولو هنيهةً مفيدة. أَمَّا التسكُّعُ في المقهى، أَو التمتُّعُ بأَيِّ لَهْوٍ في أَيِّ مكانٍ من دون العودة بفائدةٍ ولو ضئيلة، فهو هدْرٌ لا يُطيقُه مَن يَشعر بالوقْت ينبضُ فيه كما نبضُ قلبه.
لا وقْتَ مجانيًّا لِمَن يعرف جوهرَ الوقْت، احترامَ الوقْت، قيمةَ الوقْت، وخصوصًا جُودةَ الوقْت. فالوقْت ليس من عددٍ بل من جُودة، وليس من كميةٍ بل من نوعية، وليس من أَرقامٍ بل من كنوز. ومَن لا يعتبر الوقْت هكذا تكونُ أَيامه مجانيةً، وتسقُط صفراء مُطفَأَةً كأَوراق الخريف على الرصيف تَجرُفُها زخَّاتُ المطر. وهنا الفرقُ بين مَن يتعامل مع الوقْت نابضًا مُنتجًا فاعلًا مُثْمرًا خصيبًا، ومَن يتعاملُ معه جثَّةً لا نبْضَ فيها ولا جدوى. هنا تتشكَّلُ شخصيةُ الفرد وَفْق التزامه بالوقْت والتوقيت، فيفرِضُ احترامه على الآخرين ويكون قدوةً لهم يتمثَّلون به، وهذه علامة القيادة في الفرد ومحيطِهِ والمجتمع.
الوقْتُ لا يتوقَّف، لا ينتظر، بل يزلُقُ من أَيامنا، ويَتَزَأْبقُ من عمرنا على غفْلةٍ منا إِنْ لم نلْتقِط لحظاتِه. فلْنجعلْ لحظةَ الوقْت حليلَتنا الحَلال، ولنُخْصِبْها كي تلدَ لنا ما نترُكُ من نبضاتٍ حين ينطفئُ الوقْت في نبْضنا، فتُكملُ بعدنا تلك النبضاتُ حتى ولو لن نكونَ فيها بين الأَحياء.