النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس

 يستشهد الوزير السابق، والمفكّر الاستاذ عمر مسقاوي في مقال له إبّان العدوان الإسرائيلي في العام 2006، بالفيلسوف الجزائري مالك بن نبي الذي يقول إن الاستعمار وضع خططه في مسرح غارق في الظلام، بينما القاعة المليئة بالحضور غارقة في الاضواء، ليخلص إلى أنّ الحرب التي تشنّها إسرائيل في مسارها الإقليمي هي  إحدى  تداعيات القاعة المضاءة والمسرح المظلم، ويضيف: هكذا، في مفتتح القرن الواحد والعشرين، تدخل أعلام الدول العربية فرادى في مرحلة جديدة من العصر الإسرائيلي.

نعم، لقد بقي العرب سنين، يجلسون تحت الأضواء الكاشفة التي تخترق الأدمغة وما يدور فيها من أفكار، وهم يتفرجون على مشاهد شبحيّة في مسرح معتم، كأنهم ما زالوا في عهد صندوق الفرجة. لقد كنّا في مسرحية طويلة مخالفة للطبيعة حيث كان الممثلون المتحركون في دائرة الغموض، هم الذين  يتفرجون على الحضور الواضح والمكشوف. بقينا على هذا، منذ الاستثمار المخيّب لحرب 1973، إلى أن استطاعت نخبة فلسطينية لا أتوقف عند انتمائها الفكري أو علاقتها الإقليمية، أن تخرج من ظلمة عميقة طويلة السنين والإعداد، فتخرق نوم العدوّ الآمن،  بعد أن رصدته وقتاً كافياً وأعدّت لكلّ شيء عدّته. أنا لا أقول إنّ المشهد قد انقلب، ولكنني أرى أنّ الحقيقة الإسرائيلية صارت تحت الأضواء الكاشفة، وكذلك الخطط، لأن زلزال السابع من تشرين الأول الذي أقارنه بعبور الجيشين المصري والسوري لخطوط 67 قد كشف امام الإنسانية والتاريخ أنّ ذلك الكيان لا يمكن أن يستمر إلا على قاعدة العدوان بعد أن أهدر الفرص الكثيرة،  منذ خطاب "أبو عمّار" في الأمم المتحدة مروراً بأوسلو والمبادرات العربية ومرجعيّات مدريد.

يكفي أن يمارس الأمين العام للأمم المتحدة شجاعته في مجلس الأمن غداة السابع من تشرين الأول، ويقول إنّ ما جرى، له ما قبله وإنّ اسرائيل لم تترك خياراً لأهل فلسطين، فهي تنتهك الاتفاقات وتقضم الأراضي وتقتل الناس وتعتقلهم، وتدير ظهرها دائماً للحلول المقترحة كلّها، بما أثار جنون وقلة أدب وزير خارجية اسرائيل.

ولقد طالت أضواء السابع من تشرين المبهرة الراعية الأولى لإسرائيل فوضعتها في منصة الفضحية التي تُذَكِّر بإبادة السكان الاصليين، ولقد انتسبت إلى تلك الفضيحة صاحبة وعد بلفور، ودول عدة تدور في الفلك، فيما انتفض الضمير العام، ليدين بالأشكال المختلفة تلك الجريمة المتمادية والفاعلين والمتدخلين والمحرضين والشركاء وخرس الشياطين. لم تعد إسرائيل تتحرك في الغموض، لأن نتنياهو وبن غفير ووزير المالية ووزير الحرب وسواهم، يقولون بملء الأفواه، لا بد من ترحيل أهل الأرض إلى الصحراء لأنهم هم  الاجدر بتملكها وفق  الأحفورية الأسطورية.

نحن ما زلنا في قاعة، شديدة الإضاءة لكن ما يجري على المسرح لم يعد يخدعنا، وقد آن لنا أن نستغل تلك الإضاءة لننظر إلى بعضنا، ونتبيّن الملامح الواضحة، ونتتقل بأدوارنا من الفرجة إلى الفعل، فتسقطُ أولاً أوهام السيطرة والاستئثار، والاستعانة بالخارج على الداخل، وأن تنخرط النخب اللبنانية في دراسة كبرى تشرح كيف استطاعت الدماء المهراقة قبل أوانها أن تدخل إلى قصر السلام في لاهاي وتسكن ضمائر خمسة عشر  قاضياً تبوّؤوا مقاهدهم في تاريخ العدالة الدولية، فلم يلتفتوا إلى الوعيد أو التهويل بمعاداة السامية أو مواقف الدول التي ينتمون إليها، لاسيّما رئيسة المحكمة ذات الجنسية الأميركية، وأكدوا بملء الشجاعة والرصانة والهدوء حقائق متعددة أوّلها أنّ المحكمة صالحة للنظر بالدعوى التي قدّمتها جنوب إفريقيا، وأنّ القضية جديرة بالنظر لأنها تتطوي على جرائم إبادة جماعية، وأنّ الشعب الفلسطيني يجب أن يكون محل حماية من العدوان، كما على إسرائيل أن تصدر أمرها الفوري لجيشها بالتوقف عن القتل، وعليها أن تحافظ على الأدلة ولا تدمّرها، وأن تقدّم تقريراً خلال شهر للمحكمة، يفيد مدى التزامها بما طلب إليها.

فور صدور القرار التمهيدي الذي اعتبره قراراً دالاً، بل قطعي الدلالة، اتصلت بالدكتور نواف سلام، القاضي اللبناني فائق الثقافة والاحترام، فاكتفى بأن اعلمني انّ القرار مكتوب بخمسة عشر قلماً، وانه مسبوك بمداد واحد وضمير واحد.

أعود إلى القاعة اللبنانية لأقول لها، فيك كان جبران، والريحاني، ونعيمة، وقسطنطين زريق، ومحسن الأمين ورشيد رضا وبدري المعوشي وعاطف النقيب وفيليب خيرالله، ومنك أيضاً ساكن قصر السلام نواف سلام، أفلا تستحقّين السلام؟