الاعلامي بسّام برّاك
الشُهبُ الأحمرُ في ليل بعلبكَّ غمر القلعة بلون الفرح الواسع الدافئ على شكل دائرة تاجيّة لا نهاية لها تُثبتُ الصمودَ في وجه الجائحة التاجيّة وتلك الماليّة، ولو من دون جمهور المدينة والوطن في أمسيّة ضمّتِ الموسيقيّين وأناملَهم المتمايلةَ مع انحناءة القمر وأنفاسَهم المبتهلة أنغاما بقيادة هاروت فازليان المايسترو الفكرة، وضربِه عصاه في ليل بعلبكّ ليتجاوب صدى الفن على وقع أصوات منشدين وقفوا وِقفة المؤدين حكايةً استرجاعية لا بدَّ منها، من خزانة التراث اللبناني الرحباني وأيام فخر الدين، وبعضها من الغرب الألمانيّ البيتهوفنيّ، لعلّ فخر الدين يرجع ليعمّرَ الإنسان، ولعلّ بيتهوفن يعود اليه سمعُه وتناديه موسيقاه من لبنان !
في المشهديّة المرئيّة عبر الشاشات - ما خلا شاشة واحدة - وصلتِ الصورة برؤيا الإبداع الإخراجي لباسم كريستو الى البيوت، مسجّلة نجاحا عاليًا يجدرُ اعتبارُ تميّزِه حلّّةً باهرة تدثرت بها القلعةُ المشتاقة لرمي شالِ على صقيع كتفَيها في وحدتها من ناسها وأهلها وزائريها، من تاريخها الفني المتتالي منذ ستة عقود، وعبقِها الفوّاح بأصواتٍ صارت ذاكرتَنا وهُويتنا ولم يبقَ بعد رحيل صباح والصافي وزكي ناصيف (مع استغراب غياب التحية لهم من إرثهم وأغانيهم وهم عمود ثابت في القلعة) لم يبقَ إلا صوتُ فيروز ، صوتُها تلمّسُنا الدائم لبقائنا وأننا بإمكاننا استعادةُ وطن نُهبت مهرجاناتُه؟ جُوِّع ناسُه، فُقِدت أرزاقُه، أقفِلت وظائفُه، هُجِّر أبناؤه فصارتِ الاحتفالات ليلةً والقلاعُ قلعةً، والأماسي متباعدة واللقطات اشتهاءً لالتقاط وهجِها، والفعل هنا بصيغة المجهول لكثرة تردادِد صار معلوما، فالكلُّ يعرف الكل،والمقهور يستدلُّ من حرقته الى قاهريه ولو تَقنّعوا أو استتروا خلف كِمامات العصر.
هكذا، أحيا هؤلاء أمسيّة بعلبكّ على مرأى من العالم في رسالة تبيّن لا نزال ولن نزولَ فلقِيت ثناءً وإعحابا ولا ندرك إن كانت ستشّكل جسرًا لمَدّنا بمساعدات لقاءَ الثقافة بدلا من النفط مقابل الغذاء. وأعني ب"هؤلاء" أهلَ الفن والمنظّمين، فهُم لم يلزمْهم مشروعُ قانون، ولا لجنة عاجلة، أو سلّة دعم خاصّة... أهل الفن بمعيّتهم صوتُ رفيق عليّ أحمد الصخرةُ المندّية روحا بكلمة جبران جبران، وهذا يعني أن لبناننا لا يشبه لباننهم أو لبنانكم؛ نحن نبتكر بالمَوسقة الجمال، وأنتم تفرضون بالسرقة البشاعة.نحن نهَبُ بالغناء الحياة وأنتم تنهبون بغِناكم حياتَنا، والدليل قبل ساعات من الاحتفالية انتحارُ واحد واثنَين بتوقيعهما صكَّ الجوع !
فكيف يتماشى في وطن واحد الإبداعُ والاستعباد؟! كيف تكون الموسيقى حلما سلِسًا وعطاء مجّانيا عند عتبة الليل، وتكون رقصة الدولار عبئا قاسيا واحتكارا باهظا في بداية النهار؟!
في ليل بعلبكّ أُنشِدت الأغنيةُ الختامُ لمسرحيّة " أيام فخر الدين" وفيها، أن من يموتُ لأجل الوطن سيعود ب"صوات البلابل"، لكن البلابلَ في بلادي مخنوقة خلف قضبان البائعين في السوق السوداء، وسيُطلُّ من كٌتب المدارس لكنُ التعليمَ تتناقصُ صفحاتُه وتنضبُ صفوفُه من نهر الأجيال، ومن المأمول أن يولد في قصص ل"ولاد"... والأولاد قصتُهم واحدة يريدون بطلا يُخبرون عنه حين يكبرون، وحتى اليوم لم يجدوه. فهل سيعرفونه يومًا ليغنّوه غدا؟!