ناشد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، رئيس الجمهورية العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ.
وطلب الراعي، خلال عظة قداس الأحد، من الدولِ الصديقةِ الإسراعَ إلى نجدة لبنان كما كانت تفعل كلما تعرّضَ لخطر، داعيا "منظَّمة الأمم المتّحدة الى العمل على إعادةِ تثبيتِ استقلالِ لبنان ووحدتِه، وتطبيق القرارات الدولية، وإعلانِ حياده."
وأكد أن "حياد لبنان هو ضمان وِحدته وتموضعه التاريخيّ في هذه المرحلةِ المليئةِ بالتغييراتِ الجغرافيّةِ والدستوريّة. حياد لبنان هو قوّته وضمانة دوره في استقرار المنطقة والدفاع عن حقوق الدول العربية وقضية السلام، وفي العلاقة السليمة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسّط."
وسأل الراعي:" منذ متى كان الإذلالُ نمطَ حياةِ اللبنانيّين؟ فيتسوّلون في الشوارع، ويَبكون من العَوز، ويَنتحرون من الجوع؟".
ولفت الى أن "ثورة شعبنا المذلول والجائع والمحروم من أبسط حقوقه الأساسية تستحقّ الحماية الأمنية لا القمع"، معتبرا أن "الخطرُ على لبنان ليس من شبابِه وشابّاتهِ لكي يُردَعوا ويُعتقلوا. فَــتِّشوا خارج الثورة عن المخرِّبين ومُهدِّدي الأمنِ القوميّ اللبناني، والمتطاولين على الجيش والشرعيةِ والمؤسّسات، ومُعطّلي الدستور والاستحقاقات الديمقراطيّة ومن وراءهم."
وفي ما يلي كلمة الراعي كاملة:
"هَا أنا مُرسِلكم" (متى 16:10)
1. الرَّبُّ يسوع، الذي أرسله الآب ليخلّص العالم، ويفتدي خطايا البشر واحدًا واحدًا، بموت وقيامته، أرسلَ كنيسته، الممتمثّلة بالرسل الاثني عشر، لتحمل إلى العالم سرّ محبة الله الخلاصيّة، من أجل حياة كلّ إنسان. ونبّهها أنه "سيرسلها كالخراف بين الذئاب". ودعاها لتتسلّح بفضائل ثلاث: الحكمة والوداعة والصبر. وأعطاهم قدوة بشخصه، في ما عانى من رفض ومعاكسات ومكايد حتى الآلام والصلب.
تلقى الكنيسة اليوم، برعاتها وشعبها اضطهادًا وقتلاً واستشهادًا وحقدًا ورفضًا، كما في الأجيال السالفة، وتسمع في آن صوت المسيح الرَّبّ يقول: "ها أنا مرسلكم" (متى 16:10).
نصلّي من أجل الكنيسة لكي تتفانى أكثر فأكثر في الرسالة الموكولة إليها، في لبنان وهذا الشرق وفي بلدان الانتشار، وكلمة المسيح تستحثّها: "الحصاد كثير، والفعلة قليلون" (لو 2:10)، وتشجّعهم كلمته الثانية: "سيكون لكم في العالم ضيق، لكن تقووا أنا غلبت العالم" (يو 33:16). وتعضدهم الثالثة: "انا معكم طول الأيام إلى انتهاء العالم" (متى 20:28).
2. يسعدنا أن نحتفل بهذه الليتورجيا الإلهية، معكم أيها الإخوة والأخوات الحاضرون معنا، ومع الذين يشاركوننا روحيًا عبر محطة تلي لوميار – نورسات والفيسبوك وسواها، أكانوا مسنين أو مرضى أو كانوا من غير القادرين على الحضور الحسيّ في الكنيسة للمشاركة الفعليّة في سرَّ ذبيحة الفداء ومناولة جسد الرَّبّ للحياة الجديدة، بسبب تفشّي وباء الكورونا.
ويطيب لي أن أحيّي أبناء رعيّة الديمان وبناتها الأعزاء الذين يشاركوننا بحضورهم، كعادة كل سنة، وكاهنها والقيّمين على وقفها وعلى بناء كنيستها الجديدة، ومختارها وناديها وجوقتها. ونحيّي أيضًا أبناءها المنتشرين الذين لم يتمكّنوا حتى الآن من المجيء الى لبنان، بسبب توقف الملاحة الجوية. لكننا نثني بالمقابل على تضامنهم الدائم مع أهلهم ومشاريع بلدتهم.
3. أوضح الرَّبُّ يسوع نوعية رسالة الكنيسة والمسيحيين: "أرسلكم كالخراف بين الذئاب" (متى 16:10). والذئاب هم: "الناس الذين يسلمونكم إلى المحاكم ويجلدونكم... والأخ الذي يسلّم أخاه للموت، والأب ابنه، وتمرّد الأبناء على والديهم وقتلُهم... والذين يبغضونكم ويضطهدونكم" (راجع متى 10: 17-18؛ 21-22). لكنَّ الرَّبَّ هدَّأ خاطرهم بالتأكيد أنهم لا يحتاجون إلى إيجاد كلمات للاحتجاج: "فلستم أنتم المتكلّمين، بل روح أبيكم المتكلّم فيكم" (متى 10: 19-20).
4. ويدعونا ربُّنا لأن نتحلّى بفضائل ثلاث:
- حكمة الحيّات أي الفطنة التي تجعلنا نتنبّه للشرّ والمكايد باليقظة وأخذ الحيطة اللازمة.
- وداعة الحمام التي لا تضمر أيَّ غشّ أو ازدواجية، بل توحي الثقة والطمأنينة والأُنس.
- الصبر الذي هو الثبات في الإيمان والرجاء، وفي القيام بالرسالة وتأدية الشهادة (راجع متى 10: 16 و22).
5. خلّصَ المسيح العالم بتجسده ومحبته وتقدمة ذاته فدًى عن البشرية جمعاء. وانتشرت المسيحية على سطح الكرة الأرضية بنهج المحبة والتضحية بالذات وروح الأخوَّة، لا بقوَّة السلاح والمال. فالسلاح يوقد نار الحروب والنزاعات التي تخلّف القتل والدمار والبغض . والمال يولِّد الانانية، ويحتل مكان الله: "لا يمكنكم أن تعبدوا ربين، الله والمال" (متى 24:6).
6. نهج الكنيسة هذا مطلوب أن يكون نهجَ الجماعة السياسية في الوطن الذي لا يُبنى إلا بتضحيات الذين امتهنوا العمل السياسي، وتضحيات المواطنين. إن أسوأ ما نشهده اليوم عندنا هو أن معظم الذين يتعاطون الشأن السياسي، لا يعنيهم إلا مكاسبهم الرخيصة ومصالحهم وحساباتهم، وحجب الثقة عن غيرهم، وإدانة الذين يتولون السلطة في المؤسسات الدستورية. والأكثر ضررًا انهم يعملون جاهدين على أن يكون الولاء لأشخاصهم ولأحزابههم، لا للبنان. إنهم بكل ذلك يتسببون بحرمان لبنان من ثقة الاسرتين العربية والدولية، على الرغم من قناعة هذه الدول بأهمية لبنان ودوره وإمكاناته وقدرات شعبه.
7 . يبدو أنّ هؤلاء السياسيين يريدون بذلك إخفاء مسؤوليتهم عن إفراغ خزينة الدولة، وعدم إجراء اي إصلاح في الهيكليات والقطاعات، كما طالبت الدول التي تلاقت في مؤتمر باريس المعروف بـ"سيدر" في شهر نيسان 2018. لكنهم توافقوا بكل أسف على نهج المحاصصة وتوزيع المكاسب على حساب المال العام. فكان ارتفاع منسوب الفقر والبطالة والفساد والدَّين العام بالشكل التدريجي حتى كان الانفجار الشعبي مع ثورة 17 تشرين الاول 2019 التي ما زالت نارها مشتعلة، فيما المسؤولون السياسيون غير معنيين، ويراهنون على انطفائها، وهم مخطئون. "فالجوع كافر" كما كتب أحد المنتحرَين أوّل من أمس. فكانت هذه وصمة عار أخرى على جبين الوطن. وما يؤسف له بالأكثر أنّ المسؤولين السياسيين، من مختلف مواقعهم، لا يمتلكون الجرأة والحرية الداخلية للالتقاء وايجاد السبل للخروج من اسباب معاناتنا السياسية التي هي في أساس أزماتنا الاقتصادية والمالية والنقدية والمعيشية.
8. ونتساءل بمرارة: مذ متى كان الإذلالُ نمطَ حياةِ اللبنانيّين؟ فيتسوّلون في الشوارع، ويَبكون من العَوز، ويَنتحرون من الجوع؟ أوَتدركون أيها المسؤولون السياسيون الجرم المقترف: فلبنانُ جامعةُ الشرقِ ومدرسته تُغلَقُ جامعاتُه ومدارسُه وتنحطّ عزيمتها، ولبنان مُستشفى الشرق تُقفَل مستشفياتُه ويتعثّر تطوّرها؟ ولبنان السياحة والبحبوحةُ والازدهارُ تعاني فنادقه من الفراغ وتُحتجز أموال الشعب في المصارف؟ هل لبنانُ الفكر والنبوغ والنهضة يُحجَّم ويُحوَّل إلى ملكيّة خاصّة تُصادره طبقةٌ سياسيّةٌ وتَتصرّف به على حساب المصلحة العامّة؟ أيريدون لهذا الشعبِ أن تُركّعَه لقمةُ الخبز؟ لا، فكما أنّه لم يَركع أمامَ أيِّ احتلال، لن يركع اليوم. ونحن لن نَسكت على ما يجري. هذا الوطن هو ملك بنيه وهم مصدر سلطاته (مقدمة الدستور، و).
9. ثورة شعبنا المذلول والجائع والمحروم من أبسط حقوقه الأساسية تستحقّ الحماية الأمنية لا القمع. الخطرُ على لبنان ليس من شبابِه وشابّاتهِ لكي يُردَعوا ويُعتقلوا. فَــتِّشوا خارج الثورة عن المخرِّبين ومُهدِّدي الأمنِ القوميّ اللبناني، والمتطاولين على الجيش والشرعيةِ والمؤسّسات، ومُعطّلي الدستور والاستحقاقات الديمقراطيّة ومن وراءهم. الثوّار بناتُنا وأبناؤنا. هم زَخمُ التغيير وأملُ المستقبل. نحن نريدها تكرارًا ثورة حضارية لا يكون ضحيتها الشعبُ في مصالحه وتنقلاته اليومية، بل نريدها أن تحترم الأصول القانونية للمظاهرات، وتكون صاحبة رؤية بنّاءة.
10. المرحلةُ التي بلغناها تحملنا إلى توجيه هذا النداء: نناشد فخامة رئيس الجمهورية العمل على فكّ الحصار عن الشرعية والقرار الوطني الحرّ. ونطلب من الدولِ الصديقةِ الإسراعَ إلى نجدة لبنان كما كانت تفعل كلما تعرّضَ لخطر. ونتوجّه إلى منظَّمة الأمم المتّحدة للعمل على إعادةِ تثبيتِ استقلالِ لبنان ووحدتِه، وتطبيق القرارات الدولية، وإعلانِ حياده. فحيادُ لبنان هو ضمانُ وِحدته وتموضعه التاريخيّ في هذه المرحلةِ المليئةِ بالتغييراتِ الجغرافيّةِ والدستوريّة. حيادُ لبنان هو قوّته وضمانة دوره في استقرار المنطقة والدفاع عن حقوق الدول العربية وقضية السلام، وفي العلاقة السليمة بين بلدان الشرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسّط.
11. بناء الأوطان على قيم السلام والعدالة والحقيقة والحرية والاخوة الانسانية، هو رسالتها التي تتأصل في تصميم الله الخلاصيّ الشامل لجميع الشعوب. فلتكن هذه الرسالة الصافية نشيد تسبيح دائم للثالوث القدوس الآب والابن والرُّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."